باريس من ريما المسمار: ظهرت الممثلة التونسية هند صبري للمرة الاولى العام 1994 في فيلم "صمت القصور" لمفيدة تلاتلي ولم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة. مثلت وغنت اغنيات "أم كلثوم" في رواية من القصور التونسية لعائلة اقطاعية ابان الاحتلال الفرنسي عن العلاقات الطبقية في ظل الرغبة والجنس. المرة الثانية التي رأى الجمهور فيها صبري كانت قبل اربعة اعوام في فيلم "مذكرات مراهقة" لإيناس الدغيدي الذي شكل تجربتها الاولى في مصر. لاحقاً، قدمت ادواراً مصرية اخرى مع داود عبد السيد في "مواطن ومخبر وحرامي" ومؤخراً في شريط هالة خليل "أحلى الاوقات". لم تنجُ صبري من الانتقادات الحادة لجهة ما يُسمى بـ "الجرأة" في تقديم الادوار. ووصلت تلك الى حد اعتبارها الممثلة البديلة من المصريات للأدوار التي تحتوي على قبل او مشاهد جنس في ظل رزوح السينما المصرية تحت الخطاب الاخلاقي والمد الاصولي.
شاركت الممثلة مؤخراً في الدورة السابعة لمهرجان السينما العربية بباريس بفيلم "الكتبية" للتونسي نوفل صاحب الطابع. "المستقبل" التقت الممثلة الشابة هناك في حديث حول بداياتها وتجربتها بين تونس والقاهرة وما تركته الاخيرة من آثار في قولبتها ضمن صورة منمطة.
***
بدايتك في "صمت القصور"، هل كانت صدفة ام بداية مشوار مخطط له؟
ـ دخولي التمثيل كان صدفة بحتة. كنت في الرابعة عشرة ومازلت في المدرسة عندما اصطحبني والداي الى حفلة، صدف حضور المخرج نوري بو زيد فيها وكان مقرباً من والدي. وكان تعليقه الذي أدخلني السينما: "وجهك يصلح للسينما." وكان ان اصطحبني بعد ذلك الى المخرجة مفيدة تلاتلي التي كانت تبحث في تلك الآونة عن ممثلة لمشروعها "صمت القصور". أجريت تجربة امام الكاميرا وبالفعل اختارتني للدور. على انني دخلت الفيلم ومثلت الدور من دون ان اكون متحمسة فعلاً. والدي كان اكثر حماسة مني وهو الذي كان يشجعني ويدفعني الى خوض التجربة. كنت أحب السينما كمتفرجة ولكنني لم احلم ابداً بأن اصبح ممثلة ولا حتى فعلت ذلك في وحدتي او امام المرآة.
متى شعرت بالشغف يتنامى في داخلك؟
ـ الامر اشبه بالادمان على المخدرات. في البداية، كنت احسب الامر لعبة ربما لأنني بدأت في سن مبكرة. وكل من كان حولي كان جزءاً من اللعبة. بعد انهائي تحصيلي المدرسة، لم افعل ما كان متوقعاً، اي لم ادرس التمثيل وكان ذلك بمثابة قرار. بل درست الحقوق البعيدة تماماً من السينما والتمثيل. ولكن استمر موضوع السينما هواية، او الاحرى، حولته هواية بفصله عن دراستي. فصرت ادرس الحقوق وانجز فيلماً من وقت الى آخر. ولكن تبدل الوضع عندما ذهبت الى القاهرة حيث وجدتني امام اتخاذ القرار إما بالتمثيل وإما بالابتعاد من السينما الى الابد.
لماذا انتقلت الى القاهرة؟ وماذا كان بين "صمت القصور" وتلك النقلة؟
ـ كان انتقالي الى القاهرة مربوطاً بفيلم "مذكرات مراهقة" بعد ان عرضت المخرجة ايناس الدغيدي الدور علي في إحدى دورات مهرجان قرطاج. بين "صمت القصور" والانتقال الى القاهرة، كانت هناك ست سنوات وخمسة افلام تونسية، أعتبر انني شاركت فيها كهاوية وليس كممثلة محترفة. والى الآن مازلت أؤمن انني هاوية. لست محترفة كمن درس التمثيل ولا املك موهبة من درس التعبير الجسدي والالقاء الصوتي. انا املك موهبة فطرية وصدف ان انني عملت بوتيرة متتالية.
ألا تعتقدين انك تبذلين الجهد والوقت في مساحة من متطلباتها ان يكرس المرء نفسه لها وفي المقابل تنزعين عنها صفة الجدية في التعاطي؟
ـ عندما ذهبت الى القاهرة، وجدت نفسي وسط صناعة وفي ايقاع لا يهدأ ويستهلك الوقت. كان الامر مزعجاً بالنسبة الي، الخروج من فيلم والدخول في آخر من دون ان تُتاح لي فرصة التفكير في ما فعلت او حتى الاسترخاء والراحة. ذاك كان يتطلبه تكريس وقتي وحياتي للافلام فلم أشعر انني مبسوطة.
ولكنك برغم ذلك دخلت الدوامة؟
ـ هذا كان في البداية لأنني أحسست انني غير قادرة على الاختيار. فإما ان اعمل بالوتيرة التي تفرضها الصناعة ويعمل بها الآخرون واما ان اتنحى. لا اعتقد ان اي احد قادر على مقاومة هذه الدوامة في ظل تقاطر العروض عليه. ولكن الفارق بين شخص وآخر او ما اعتبره فعل ذكاء هو ان يتمكن المرء من الخروج من تلك الدوامة قبل ان تقضي عليه.
تقصدين انك خارج هذه الدوامة الآن؟
ـ هذا صحيح وهو قرار اتخذته قبل نحو اربعة اشهر ويقضي بأن آخذ فترة استراحة طويلة، انهي خلالها دراساتي العليا في مجال "القانون الدولي" ولا مانع من تمثيل فيلم واحد في السنة اذا عُرض علي ما يستحق العناء. اعترف ان ذلك قرار صعب لأن النجومية وعالم السينما والاضواء والشهرة عالم مغرٍ وسهل الادمان وممتع. ولكنني في الوقت عينه سعيدة بأنني تمكنت من التوصل الى قراري في الوقت المناسب وهو ما مهد له احساسي بأنني لا اريد كل ذلك ولكنني اريد ببساطة ان اكون "كويسة"، اي انسانة جيدة وسعيدة.
عندما تقررين عمل فيلم واحد في السينما او اثنين على ابعد تقدير هل هو لحفظ طريق العودة وخوفاً من ان ينساك الناس؟
ـ لا انه من اجل ضمان متعتي في العمل. عندما شعرت انني اذهب الى التصوير غير سعيدة واصور بدون بهجة عندها قررت التوقف. لا اريد ان تتحول السينما مصدر عيشي لأن ذلك سيقضي على متعتي فيها.
هل تشعرين انك كممثلة شابة تملكين الخيارات الواسعة؟ والى اي حد تشعرين بضغط النظام الانتاجي؟
ـ أؤمن بمبدأ ان الاسنان يستطيع ان يفعل ما يريده وان يخلق لنفسه المناخ الذي يساعده على ذلك. هناك ضغوط بالطبع ولكن حريتي تُقاس بمدى قبولي بها او رفضي لها. عندما قررت ان ارفض الخضوع لتلك الضغوطات بقبول كل ما يُعرض علي، عندها بحثت عن المناخ الذي يساعدني على المضي بقراري اي ان اجد لنفسي عملاً أعيش منه وانحو بالسينما الى مساحة المتعة الذاتية.
كيف تصفين تجربتك في القاهرة؟
ـ انها كتجربة ممثلة اميركية تنتقل من اوهايو الى هوليوود. انا قادمة من تونس، بلد صغيرة انما تنتج سينما جيدة ونوعية وانتقلت الى بلد الصناعة والتجارة والفن حيث يمكن للصناعة والتجارة ان يكونا مقياسين اهم من الفن وربما على حسابه. ولكنني عموماً راضية عن تجربتي. وثمة عنصر مهم هو انني احب القاهرة ومتعلقة فيها جداً.
هل تعتقدين انك في نهاية المطاف ستنالين ما تريدينه من اعتراف من مصر وليس من تونس؟
ـ ليست مسألة بلدان او جنسيات الافلام بقدر ما هي جودة الافلام. مشكلتي هي في توافر فرص اكبر لافلام جيدة واعتقد ان ذلك ممكن في مصر اكثر لأن كم الانتاج اكبر بكثير وبالتالي فإن نسبة الوقوع على عدد اكبر من الافلام اعلى.
ألم تلحظي انك سُجنت في ادوار منمطة في الافلام المصرية؟
ـ في البداية، حدث ذلك. أعتقد انه سوء فهم تسبب به دخولي السينما المصرية بفيلم "مذكرات مراهقة" ومخرجته الدغيدي المثيرة للجدل في الوسط السينمائي المصري. فهي إمرأة وجريئة ولا تأبه بالمتطرفين ولا بالهجوم الاخلاقي. ربما فُهمت في البداية على انني ممثلة متحررة وجريئة وميالة الى ادوار التعري لتظهر موهبتها.
اذاً، انت لست متحررة وجريئة؟
ـ بلى، أعتبر انني متحررة وجريئة ولكنني ضد التصنيفات. انا جريئة ومتحررة على الصعيد الانساني والشخصي ولكن لوصف "ممثلة جريئة" ابعاد اخرى في الوسط السينمائي. الصحافة هي التي تطلق تلك التصنيفات وليس الجمهور. الاخير يرى الممثل او الممثلة من منظور الجيد او الرديء. الممثل الجيد قادر على كسر كل التصنيفات.
ولكن واقع حال السينما المصرية بوقوعها تحت وزر خطاب اخلاقي وتسميات من نوع "السينما النظيفة" يؤدي في النهاية الى ان تقوم ممثلة مثلك، متحررة على الصعيد الشخصي، وغير مصرية بالادوار التي ترفضها الممثلات المصريات.
ـ هذا صحيح الى حد بعيد. ولكن ما هو واقع ايضاً هو انني منذ اربعة او خمسة افلام، لم يُعرض علي عمل يحتوي على مشاهد ساخنة. وأعتقد انني تمكنت من تبديل نظرة الصحافة والمنتجين والمخرجين الي وفهموا انني لا احتاج الى التعرية من اجل اثبات موهبتي. اعتبر نفسي ذكية كفاية لاكتشف عند قراءة السيناريو لماذا عرضه المخرج علي. فإذا احسست انه تقدم الي كممثلة يجدها موهوبة، فأهلاً واذا فعل لان ممثلات اخريات رفضنه بسبب القبلة او المشاهد الساخنة فأنا حرة تماماً في الرفض. عندما أشعر ان المخرج او المنتج "يحترم دماغي" اعمل معه واذا شعرت انه يهين ذكائي ارفض العمل معه.
هل تتذكرين لحظة معينة او ربما عملاً احدث تغييراً في علاقتك بالكاميرا او بالسينما او حتى في نظرتك الى التمثيل؟
ـ علاقتي بالكاميرا غريبة، احبها واحب صوتها ورائحتها واحب من حولها ولكنني ما ان يدور المشهد انساها تماماً وانسى وجودها. وتنعدم المسافة بيني وبينها. ولكن اللحظة السحرية هي بيني وبين نفسي عندما اشعر خلال تأدية المشهد انني اقوم بـ"اللقطة"، اي انها هي التي اريدها والتي لا تتكرر. انها ببساطة اللقطة او الاحساس الصحيح واعرف ذلك قبل ان يقول المخرج "اوكي". هذه احلى لحظة، اشعر بقلبي يخفق وبعيني دامعتين كأنني ذاهبة لمقابلة حبيبي في عالم آخر.
هل مازلت تشعرين بأنك في لعبة خلال التصوير؟ وما هي شروطها؟
ـ اجل مازال الامر اشبه بلعبة شرطها الاساسي لكي تنجح وتستمر هي المتعة. اذا فقدت المتعة في ما افعله، ينتهي كل شيء. والخوف والقلق جزء من هذه المتعة لأنها احاسيس جوهرية في علاقتها بالسينما ولولاها لما استطاع الفنان ان يوسع قدراته وان يصل الى الاحساس بأنه انجز شيئاً ما لم يكن يعتقد انه قادر عليه.
اختلف مفهوم النجومية اليوم عما كان عليه في السينما قديماً. كيف تنظرين الى الفكرة؟
ـ للأسف، ليس اليوم اسهل من ان تصبحي بطلة فيلم مع انعدام المقاييس. النجومية ليست سلسلة افلام واغلفة مجلات. النجومية الحقيقية برأيي هي ان يستطيع الناس عندما يتفرجون على صاحبها ان يحلموا وان يشعروا ان النجم او النجمة ليس واقعاً. المشكلة في نجوم اليوم انهم واقعيون اكثر مما يجب ومتوفرون اكثر من المطلوب ومستهلكون بدرجة عالية في التلفزيون والاذاعة والصحافة واخبارهم الخاصة والعامة معروفة بتفاصيلها (زيجاتهم، حياتهم الخاصة، سفراتهم...) وهم في المقابل يعززون تلك الناحية بادعاء العادية والواقعية. هم محبوبون ولكنهم ليسوا نجوماً. النجوم بالنسبة الي توقفوا عند عمر الشريف وهند رستم وفاتن حمامة وآخرين، عند اناس يعرفون كيف يظهرون ومتى يختبئون.