القاهرة من محمد أبو زيد: تشكل الاسكندرية هاجسا رئيسيا في جميع أعمال الكاتب المصري محمد جبريل بشوارعها وناسها وعاداتها. وفي هذا الحوار يتحدث الروائي محمد جبريل عن هذه المدينة، وعن علاقته بنجيب محفوظ التي يؤكدها فيما ينفيها الآخرون وعن جيل الستينيات الذي ينتمي اليه فيما يستبعده البعض من هذا الجيل، وعن 42 عملا ادبيا له تتنوع بين القصة والرواية والنقد والسيرة الذاتية أهمها «رباعية بجري، الحياة ثانية، زمان الوصل، الشاطئ الآخر، ما ذكره رواة الأخيارعن سيرة الحاكم بأمر الله هل قاضي البهار ينزل البحر، حارة اليهود، الخليج، زوينة» وغير ذلك:
* تبدو الاسكندرية هي الهاجس الرئيسي في كتاباتك فهل كتبت عنها بحكم المولد، أم لدافع آخر؟
ـ بعيدا عن أى مصطلحات أو أي تعبيرات أدبية وبلاغية فأنا أكتب عن الاسكندرية لأني أجد نفسي أكتب عن الأسكندرية، أنا تركت الاسكندرية من أكثر من أربعين عاما، وأتردد عليها في زيارات متقاربة ومتباعدة وأشعر في كل الأحوال بأني حين أفارقها لا تفارقني، انها تسكنني، وهذا هو التعبير الدقيق من دون أدنى مبالغة، ثمة احداث لرواياتي تدور بعيدا عن الاسكندرية لكن الاسكندرية تخضعني لمشيئتها لمكانها، فيتحول المكان من دون أن أدري الى الاسكندرية.
* كتب الكثيرون من المصريين عن الاسكندرية مثل ادوار الخراط، وابراهيم عبدالمجيد، سعيد سالم وجمال القصاص، وكان لكل واحد منهم منطقة تخصه، باعتقادك ما هي المنطقة التي تخصك بعيدا عن هؤلاء؟
ـ منطقة بحري لأنها منطقة الطفولة والنشأة، وان كان ثمة مغايرة ولا أقول تميزا فهي اني كتبت عن ارتباط اليابسة بالبحر، فشخصيات اعمالي الابداعية من الصيادين وباعة السمك; وعمال الميناء والعاملين بالتصدير والاستيراد وجنود السياحل وكل ما له علاقة بالبحر وكل من يتعاملون مع البحر ويقيمون في اليابسة.
* لكن هناك آخرين كتبوا عن هذا أيضا ؟
ـ ربما، ولكن المسألة ليست أساسية بالنسبة لهم مثلي، فانعكاس البحر على اليابسة وانعكاس اليابسة على البحر يبدو واضحا لدي لسبب بسيط هو اني نشأت في هذه البيئة التي تربط الاثنين، فبمجرد ان أصعد على سطح بيتنا أشاهد البحر من ثلاث جهات تشكل قوسا مع المينا الشرقية، والانفوشي والمينا الغربية، بالاضافة الى طبيعة الحياة نفسها مثل حلقة السمك وكل ما يتعلق بالبحر، وبازعاجاته والنوات وغيرها فضلا عن خاصية أخرى لا يمكنني أن أغفلها وهي الجو الروحي الذي يمثله تعدد المساجد والزوايا والحياة الدينية في الحياة.
* يبدو الهاجس السياسي واعتماد الخلفية السياسية في جميع اعمالك واضحا.. لماذا؟
ـ لأني مهموم سياسيا.
* وهل معنى هذا أن تكتب سياسة في الابداع؟
ـ أنا لا أكتب في السياسة ولا ألحظ هذا، وانما أكتبه بعفوية وهناك مجموعة عوامل ساعدت على هذا، منها انني تعلمت القراءة من الصحف وبالضرورة في الصحف سياسة، وهذا اثر علي فيما بعد، ثم عملي بالصحافة لاحقاً. وقد أتيح لي على فترات متقاربة ومتباعدة أن أصادق واتعرف على أصحاب اهتمامات سياسية يمثلون كل التيارات الدينية وقنواتي المفضلة في التلفزيون هي قنوات الاخبار، وقد سأل سقراط أحد الأشخاص ماذا تفعل، فقال أعيش، فقال سقراط، والبهائم تعيش، وأنا لا أريد أن أعيش كالبهائم، أريد أن يكون لي موقف، ولو لم استطع التعبير عنه من خلال عمل ابداعي أكتبه كمقال في الصحف.
* يتهمك البعض بأنك لم تزل تكتب الرواية الواقعية الكلاسيكية ولم تتجه الى استخدام تقنيات الكتابة الحديثة مثلما فعل باقي جيلك، ما ردك؟
ـ من الصعب ان أقول هذا، وكل عمل أكتبه يختلف عن الأعمال التي سبقته وأنا من المؤمنين ان العمل يكتب نفسه، ولا ألوي ذراعه، وعادة أبدأ العمل الابداعي من دون ملامح واضحة، ومؤكدة وهو يكتب ملامحه أثناء تخلق الكتابة، حتى التكنيك يتخلف منذ البداية، فأنا لا أصطنع شكلا.
* لك روايات عن الاسكندرية وروايات تاريخية، ورويات صوفية، وفرعونية وسياسية، أقصد انك تكتب في كل اتجاه، من دون خط محدد، ما رأيك؟
ـ يحركني عاملان أثناء الكتابة: الحنين الى المكان، والحنين الى الزمان. الحنين الى المكان بشكل حي بحري بالاسكندرية بالأساس، فمعظم قصصي التي تتناول هموما انية تدور في حي بحري، ولكن احيانا لأني سافرت أماكن كثيرة يحركني الحنين عن أماكن خارجية من خلال عمل ابداعي فأكتبه. والعامل الثاني هو الحنين الى الزمان. عندما أحب ان أكتب عن فترة ما، أظل اقرأ فيها حتى أتوحد معها، ثم أكتب عنها لأني مؤمن انه لا بد للكاتب المعاصر من أن يصل نفسه بالتراث ولا يتصور ان الحداثة هي اجتثاث للتراث من أصوله.
* هذا يجعلني أسأل، هل تكتب رواياتك التاريخية نتيجة لقراءتك التاريخية؟
ـ الأساس الفكرة طبعا. عندما أشعر بأن شخصية ما تستفزني، أبدأ القراءة عنها، وعندما أبدأ الكتابة أكون قد مشيت في شوارع الفترة التي أكتب عنها، بين بناياتها، وأتحدث بلغتها، واستخدام مفردات معيشتها، بالاضافة الى أني أحاول في التكنيك أن استخدم المفرده بصياغة حديثة وأحاول أن أقيد من اسلوب السيرة والطرفة والنادرة وكل ما ينتمي الى التراث.
*إلام ترد الهاجس الصوفي وانتشار الأولياء والمتصوفة في رواياتك؟
ـ أكتب عن الصوفية لأن الحياة التي عشتها في الإسكندرية فرضت علي ذلك: الأولياء، والطرق الصوفية، والمساجد والمعتقدات الشعبية، فهذا البعد موجود في الحياة السكندرية، ومن المهم جدا أن أعبر عنه، وهو شكل من أشكال الواقعية السحرية كما يسمونها في اميركا اللاتينتية، وأنا أحب قراءة أدب اميركا اللاتينية، وما أكتبه قد يتفق معه، لكنه غير مصنف فالكتابة عن الصوفية، وخصائصها كالمشي على الماء والطيران واللجوء الى الأولياء الذين ماتوا منذ سنين يمكن أن يصنف على انه واقعية سحرية.
* رغم انك تنتمي الى جيل الستينيات، الا أن اسمك غير مطروح بقوة مع اسماء هذا الجيل، هل ترى انك مستبعد؟
ـ لست مشغولا بهذا الأمر ولم يصدر قرار جمهوري ولا أمر سماوي يحدد أسماء هذا الجيل. هم الذين اعتبروا انفسهم يشكلون هذا الجيل وهم الذين يوجه اليهم هذا السؤال. أنا أكثر كتاب الستينيات توزيعا، وأغزر الكتابات النقدية كتبت عني، وأكثر الرسائل الجامعية كانت عني. وأحد الاصدقاء راجع ما كتب عني، ذكر لي أن ما كتب عني أكثر ما كتب عن نجيب محفوظ حين كان في سني. وأنا لم أحرض أحدا على أن يدرسني أو يكتب عني، وأزعم انني متحقق على مستوى القارىء العادي، والاكاديمي والنقدي، وأما أن البعض يحاول التغييب أو التجاهل أو التعامل بمنطق الشللية فهذا لا يعنيني.
* يصدر لك كل عام كتابان الى أربعة، ألا ترى أن هذا كثير في ظل اتهامك بغزارة الانتاج؟
ـ المسألة هي اني قد أكتب رواية واحدة رديئة، وعشرة روايات جيدة، ويجب ان يعامل الأدب بالكيف وليس بالكم، ويجب قبل أن تحكم على أعمالي أن تناقشها، بالاضافة الى أن غيري من أبناء جيلي من يفوقني كما، ومشكلتي ان أعمالي ظهرت في أوقات متقاربة، لأن هناك تسع سنوات قضيتها خارج مصر، كتبت فيها ولم أنشر الا بعد عودتي، فضلا عن مقاطعتي للحياة الاجتماعية، رغم اني صحافي ولكني لا أمارس الحياة الصحافية بمعناها الحقيقي حتى ولو خرجت فاني آخذ في حقيبتي ما يقرأ، أندهش ممن يتكلم عن الغزارة وهو يقضي وقته في »الجريون« أو »زهرة البستان« أو فيما يسمى بالمستودع من الصباح حتى آخر الليل وأسأله، متى تقرأ ومتى تكتب!
* صدرت روايتك »الحاكم بأمر الله« في الوقت الذي سقط فيه نظام صدام حسين في العراق، وربط البعض بينهما ما رأيك؟
ـ الترابط في موعد النشر فقط، وأرفض الربط لأنني عندما أكتب عن شخصية معاصرة وأحاكيها، أتناولها كما يشاهدها هذا العصر. لست مؤرخا ولا عالم اجتماع، وأنما أحاول الابداع، وهو يشترط البعد الانساني الذي يعطي له الاستمرار والديمومة.
* قدمت تيمة الحاكم الظالم بنفس تفاصيلها في أكثر من عمل لك مثل »إمام آخر الزمان« و»سيرة الامام الحاكم بأمر الله« و»اعترافات سيد القرية« والعديد من قصصك القصيرة.
ـ أحاول أن تكون لي فلسفة حياة. هذه الفلسفة تتبدي في اعمالي كتنويعات على ألحان محددة منها على سبيل المثال:الانسان المطارد، والصراع العربي الاسرائيلي، وما لا استطيع التعبير عنه في اعمال الأدبية، أعبر عنه في مقالاتي الصحافية، وأنا أرى أننا نحن المثقفين من يصنع الطاغية، فالطاغية لا ينشأ من فراغ، المثقفون هم الذين يقومون بتأليه الحكام والباسهم هالات البطولة والزعامة، وفي رأيي أن الطاغية لا ينتهي بالصورة التي بدأ عليها، ولكن من يفيدون منه يحرصون على أن يصبح طاغية، وما أريد أن أصل اليه، أنني قد أكرر نفسي، ولكن الأمر بالنسبة لي فلسفة حياة، فضلا عن اختلاف التناول واللغة، والتكنيك من عمل لآخر.
* كتب سالم بنحميش أوخرون عن الحاكم بأمر الله، وكتبت أيضا. فيما أختلفت عنهم. وما رأيك في المقارنة التي اقامها أحد النقاد العرب بينك وبين بنحميش في هذا الصدد؟
ـ لم أقرأ الآخرين، وعرفت بعد أن انهيت روايتي أن سالم بنحميش حصل على جائزة عن هذه الرواية، وعندما قرأتها وجدت انها تأخذ خطا مغايرا، أنا أكتب عن فلسفة حياة. والمضحك ان هذا الناقد الذي أشرت اليه أقام موازنة بين بنحميش وبيني، وقال ان رواية بنحميش أفضل وأكثر فنية لأن عناونيها أكثر شاعرية، وبهذا المنطق يمكنني اعتبار محمد حسنين هيكل أفضل كاتب أدبي لأن عناوينه أكثر شاعرية مثل خريف الغضب وغيره، وهذا منطق يطفح سذاجة.
* علاقتك بنجيب محفوظ تؤكدها وينفيها الآخرون، أين الحقيقة؟
ـ أصدرت كتاب »نجيب محفوظ. صداقة جيلين« أوضحت فيه هذه العلاقة وفي عز صحة نجيب الجسدية، وقرأه، ولم يعترض على كلمة واحدة مما جاء فيه، بل أنني أشرت في مقدمته أنني كنت واسطة التعارف بينه وبين من يدعون أبوة نجيب محفوظ الآن. ومع كل احترامي لمحفوظ، فقيمة الأديب بما يكتبه، وليس بمحاولة الاتكاء على شخصيات أو كتابات أخرى، مهما كانت قيمتها. اوجه هذا الكلام للذين يقحمون أنفسهم عليه في الوقت الذي يحتاج فيه الراحة، والاستجمام ويطرحون مسائل غريبة مثل الأبوة والوراثة، مع أن الأدب لا يورث. لقد كنت لصيقا بمحفوظ حتى سافرت الى الخارج، وذكرت كل هذا في كتابي وأنا أكبر من مثل هذه الصغائر وأنا أعتز بما أكتب، ولا أبحث عن وسائل أخرى للشهرة مثلهم.
* لكنك عندما كتبت مقدمة لمجموعتين قصصيتين هما «صدى النسيان» و«فتوة العطوف» لنجيب محفوظ من أعماله الأولى هاجمك البعض في المجلات العربية ووصفوك «بكاتب مغموريقدم لمحفوظ»؟
ـ ما كتب وقتها كان بتحريض من هؤلاء الأشخاص ونجيب محفوظ هو الذي كتب ورقة بخط يده يزكي فيها ان أكتب هذه المقدمة، وسأفشيك سرا فقد كلفني محفوظ نفسه بمراجعة روايته الأخيرة »اصداء السيرة الذاتية». بعد ان ظل لفترة طويلة متخوفا من نشرها وبها أخطاء، رغم وجود هؤلاء. وعندما هوجمت بسبب المقدمة التي كتبتها لمحفوظ في مجلة «الصدى» جاء محرر المجلة الى، واتصلنا بمحفوظ أمامه وقال انه يعتز بصداقتي وانه وافق على هذا النشر.
أنا اعتزلت نجيب محفوظ حفاظا على صحته، وعندما قابلني محفوظ وسألني لماذا لا تأتي، قلت له عندما ينفض المولد الذي حولك، لكن يبدو انه لا يريد أن ينفض.
* تتسلل سيرتك الذاتية في ثنايا اعمالك، اضافة الى انك اصدرت اربعة كتب عن سيرتك الذاتية هل تعتمد على حياتك الشخصية في الكتابة؟
ـ لا يوجد تعمد لاستعمال سيرتي الذاتية، وأنا أترك العمل الابداعي يكتب نفسه، والكتب التي تحدثت عنها ليست سيرة ذاتية مطلقة، وغير ذلك فأنا أكتب فنا، والسيرة الذاتية الآن جنس أدبي ينتمي الى جنس الرواية.
* أن تفوز بجائزة الدولة التشجيعية في النقد، ألا يبدو هذا محزنا لك كمبدع؟
ـ أنا فزت بالجائزة ولم أكن قد حققت ذاتي الأدبية بعد، فلم يكن وقتها قد صدر لي سوى مجموعة واحدة، وهذه المجموعة رأيي فيها الآن انها أقرب إلى مشاريع للقصص التالية، وعموما فأنا أصغر واحد في جيلي حاز جائرة الدولة على الاطلاق.
* بعد كل هذا هل تشعر بأنك مظلوم؟
ـ أبدا، ولو شعرت بهذا لن أكتب.