لا يرى المرء الكثير بشأن الوضع في وسائل الاعلام، ولكن ما يجري في المشهد السياسي العراقي هذه الأيام قد يكون أكثر أهمية من صور السيارات المفخخة وعمليات الاختطاف التي تهيمن على العناوين الرئيسية خلال الأشهر القليلة الماضية. فالحدث الأول الجدير بالاهتمام هو تشكيل جمعية انتخابية عراقية تعرف باسم المؤتمر الوطني، وبموجب هذه الخطة يجتمع ما يقرب من ألف من المواطنين البارزين من كل مناحي الحياة، وكل الجماعات الاثنية، وكل الأديان، لانتخاب هيئة من 100 عضو تقوم بمهمة برلمان مؤقت للبلد المحرر حديثا.
وعلى النقيض من رغبات كثير من العراقيين، فالمندوبون الألف للجمعية الانتخابية لن يكونوا منتخبين بشكل مباشر من جانب المواطنين. ولكن بما أنه لا توجد سلطة مركزية لفرض خياراتها على الناس، فمن المؤكد أن أولئك الذين سيصبحون أعضاء يتمتعون بنوع من الدعم الشعبي الحقيقي. وبكلمات أخرى فان الأعضاء «سينبثقون» من جمهورهم الانتخابي المعني. وكل هذا يتبع نموذج اللويا جيرغا (الجمعية العليا) الأفغانية، أي اجتماع كبار ممثلي العشائر والأديان والأعمال والثقافة والسياسة في لحظات حاسمة من تاريخ البلاد لتحديد طريق التقدم، فيما سيعالج برلمان المائة المؤقت، والمنبثق عن المؤتمر، عددا من القضايا الهامة، بينها إعداد المسودة النهائية لدستور جديد، كان سيجري اقرارها من جانب المؤتمر، وتحديد آليات وأصول احالتها الى استفتاء عام، كما سيصوغ القواعد التي تجري بموجبها انتخابات البرلمان الدائم.
والذين يتابعون الجانب السياسي للقصة العراقية هذه الأيام، مقابل الجانب الاعلامي، يتأثرون بالاعتدال والنضج الذي تظهره جميع اقسام المجتمع العراقي تقريبا. فالمثقفون والتجار ورؤساء العشائر ورجال الدين والسياسيون والاتحادات النقابية وزعماء المنظمات غير الحكومية يجتمعون سوية لترسيخ ثقافة جدال ومساومة واجماع في أجواء انفتاح لم يشهده العراق من قبل. وقد ساعدت الحكومة المؤقتة على تعزيز ذلك المناخ برفع الحظر الذي فرضته سلطة الائتلاف المنحلة على عدد قليل من الصحف وبينها الصحيفة الأسبوعية الناطقة باسم مقتدى الصدر، فيما أوضحت أيضا ان الأعضاء العاديين لحزب البعث المحظور سيسمح لهم بلعب دور في اقامة نظام تعددي جديد.
والى ذلك قررت الحكومة المؤقتة ان تبدأ عملية تشكيل المؤتمر بعدما اصبح من الواضح ان الامم المتحدة، التي كان من المفروض ان تنظم وتقود العملية بأكملها، غير راغبة في ذلك. وعذر الامم المتحدة هو ان موظفيها في حاجة الى حمايتهم من الارهاب. ولكنها لا تريد ان تأتي الحماية من قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، او من قوات تسيطر عليها الحكومة المؤقتة العراقية. وبما ان أي دولة لم تعرض التقدم بقوات لقوة حماية الامم المتحدة التي تضم 4000 جندي، فإن العملية كلها تعطلت. ومن الواضح ان العديد من كبار الدول في الامم المتحدة ولاسيما روسيا وألمانيا والصين وفرنسا تنتظر اجراء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. فبعد معارضتهم لسياسة الرئيس جورج بوش تجاه العراق من البداية، اصبحوا مترددين في المساعدة وانجاح العملية. ولكن كل ذلك سيتغير عقب الانتخابات الاميركية. فإذا اعيد انتخاب بوش، فسيعرف منافسوه انه لا يمكنهم الولولة والتجهم لمدة 4 سنوات اخرى، وسيعرضون الانضمام الى قوة حماية الامم المتحدة والمساعدة في الاشراف على عملية انتقال العراق الي الديمقراطية. ولكن، اذا ما اصبح جون كيري رئيسا، فإن القوى التي عارضت بوش ستتمكن من الادعاء بنصيب لها في هزيمة بوش، وبالتالي المطالبة بدور في العراق من دون الظهور بمظهر المتراجع.
وفي المقابل فالعراقيون قرروا، وبحكمة، عدم انتظار الامم المتحدة التي لا تعجبهم ولا يثقون بها، المضي قدما في خطط الانتخابات، وهو ما يعني في الواقع تحويل دور الامم المتحدة الى دور نظري، على الاقل في هذا المنعطف. ومن هنا فالمهم ان تلتزم الحكومة المؤقتة بالجدول الزمني الخاص بالفترة الانتقالية حتى النهاية. فالعراق في حاجة الى انتخابات لاضفاء الشرعية، ليس فقط على البنية الحكومية المتطورة، ولكن ايضا، وبصفة خاصة، على النظام الجماعي الذي تحتاجه لاستمراره كدولة قومية.
ومن الجدير بالملاحظة أن القيادات السياسية العراقية على وعي بالفرصة المميزة التي قدمتها مزيج من العناصر لها لبناء دولة قومية حديثة تعتمد على الوحدة والتنوع. وبالرغم من الحملة الارهابية المستمرة، فلا يجب على الحكومة المؤقتة الخضوع لاغراء اعادة المؤسسات التي حولت العراق الى جمهورية الخوف. ومن هنا فمحاولات رئيس الوزراء اياد علاوي تقديم نفسه كرجل القانون والنظام، الذي يملك قبضة من حديد، ربما تكون مفيدة من الناحية التكتيكية، الا أنها، أي تلك المحاولات ستكون ذات نتيجة عكسية على المدى الطويل.
أما على صعيد الارهابيين في العراق، فهم، ومثل أي ارهابي في العالم، يستخدمون العنف لافتقارهم الى الدعم، واذا كانوا يتمتعون بتأييد شعبي، فإن ذلك لن يمنعهم من تنظيم مظاهرات وتشكيل احزاب سياسية وتجمعات، بل والدخول في الانتخابات المقبلة. ولكن، وبما أنهم يعرفون انه لا يمكنهم أن يفوزوا في اي انتخابات حرة، فسيفعلون كل ما في وسعهم لمنع الانتخابات. كما انهم سيحاولون استفزاز الحكومة المؤقتة ودفعها الى أن تصبح مثلهم، أي تمارس قتل الناس عشوائيا بهدف زرع الخوف ليس الا.
هدف الارهابيين اقامة معادل اخلاقي بينهم وبين الزعامة السياسية العراقية الجديدة، بأن يخلقوا وضعا يمكنهم أن يقولوا فيه: انظروا، نحن سواء، فكلانا يمارس القتل ! ويمكنهم بعدئذ ان يدعوا انهم يقتلون باسم مثال تجريدي، قومي عربي أو اسلامي، في حين ان الزعامة العراقية الجديدة تقتل «من أجل الأميركيين».
وينبغي ان لا تقع الزعامة العراقية الجديدة، التي تضم كل الأطياف السياسية باستثناء الارهابيين، في ذلك الفخ.
ومن المؤكد أن العراق، شأن أي بلد آخر، يحتاج الى مؤسسة مخابرات وقوة لمكافحة الارهاب، كما يحتاج الى جيش وقوات شرطة. ولكن اذا ما تم النظر اليها كمجرد وسيلة لاستخدام العنف ضد الخصوم، فذلك أمر غير فعال سيكون في اطار السلطة السياسية المناسبة. وتثبت تجربة العراق هذا الأمر. فقد خلق صدام حسين آلية مروعة للخوف والعنف لم يشهد لها التاريخ العربي مثيلا، وقتل من الناس ما لم يقتله أي حاكم عربي، ولكن جيشه الهائل وحرسه الكثير العدد، ومخابراته الواسعة، واستعداده للقتل بدون حساب، لم تؤد به الا الى حفرة العنكبوت تلك القريبة من تكريت. وعلى زعيم العراق الجديد ان لا ينسى حفرة العنكبوت تلك، وهي المصير النهائي لنظام مارس الكذب والتضليل والابتزاز والتعذيب والحرق والنهب والقتل على مدى 35 عاما. ان الكثير من الاعتراف بالفضل في تحرير العراق وجه، وعن حق، الى التحالف الذي قادته الولايات المتحدة. ولكن الحقيقة هو أن الدور الأساسي في ذلك التحرير يعود الى الشعب العراقي الذي قرر عدم القتال دفاعا عن صدام حسين. وعلى كل من يحلم بخلق دكتاتورية جديدة في العراق أن يتذكر ذلك. ان تجربة تلك البلدان التي الحقت الهزيمة بالارهاب تعلمنا درسا حيويا واحدا هو أنه وبتعبئة الدعم الشعبي وحسب، يمكن للحكومة ان تسحق خصومها الارهابيين. والعراق ليس استثناء من ذلك. ولذا، وفقط، وبمنح السلطة للناس يمكن للحكومة المؤقتة أن تحقق النجاح في الحاق الهزيمة بأولئك الذين يحلمون بعودة جمهورية الخوف الصدامية أو خلق نظام طالباني في بغداد.