ارتاح الحكم في السودان، بلا ريب، للخلافات التي عمت الساحة الدولية حول اسلوب معالجة مشكلة دارفور والتي كان حدها الاقصى يطالب بالتدخل عسكريا في الاقليم المنكوب لوقف المذابح التي يتعرض لها سكان المنطقة على ايدي اتراب لهم تدعمهم الحكومة المركزية.
كما ان الحكومة السودانية فرحت، على الأرجح، لصدور اصوات ترى في اسباب التحرك الدولي لوقف المذبحة مؤامرة تحيكها الدوائر الصهيونية والاميركية لضرب حكومة عربية تعلن تمسكها بالإسلام كمنهج في الحكم.
لا شك في ان السلطات في الخرطوم ترى الصعوبات التي ستواجه أي تدخل عسكري غربي، حيث تدرك ان بريطانيا التي هددت بإرسال خمسة آلاف جندي الى الإقليم، غير مستعدة عمليا لتورط عسكري مواز لتدخلها في العراق، كما انها في غنى عن تلقي المزيد من الاتهامات عن رغبتها في الهيمنة على بلد ثان مصدر للنفط. ومن غير الوارد بالنسبة الى الولايات المتحدة التي اصدرت هيئتها التشريعية إدانة شديدة للخرطوم، ان تغامر بإرسال قوات الى دارفور وإن كان بعض المشاركين في السباق الرئاسي يرون إمكانية استغلال المأساة كموضوع على جدول الأعمال الحزبي.
في البعد الميداني، تطور الصراع في الإقليم من سنوات الجفاف الطويلة والمجاعة التي رافقتها ليضع اسس تناحر تشكل المشكلات البيئية لبناته الاولى. استغلت حكومة الخرطوم، كما يجمع من تناول الازمة في دارفور، باستثناء حكومة عمر البشير وبعض مكتشفي المؤامرات الاميركية الاسرائيلية، هذا الصراع وحولته الى حملة لتصفية تمرد سكان منطقة شاسعة تعاني من الإهمال والتهميش المزمنين.
وعلى غرار كل ازمة، كان لا بد ان تظهر الى السطح سلسلة من الابعاد التي لم تكن واضحة في لحظات الاندلاع الاولى. فقد اكتسى الصراع طابع الحملة lt;lt;العربيةgt;gt; (؟) على lt;lt;الأفارقة الزنوجgt;gt; (؟) وطابع تمرد الاطراف على المركز في دولة فشلت منذ نصف قرن في صياغة علاقات واضحة بين مكوناتها العرقية والطائفية، اللهم باسثناء علاقات التسلط والاستتباع. يصح ذلك على ما جرى في الجنوب في الاعوام العشرين الماضية وما يحدث اليوم في دارفور وما سيحدث في شرقي السودان في مستقبل قد لا يكون بعيدا اذا لم تتغير عقلية وممارسات الحاكمين في الخرطوم.
وفي مقابل الدعوات الى تضامن عربي اسلامي في وجه المؤامرات التي يتعرض لها السودان، لعل الوقت قد حان لمطالبة الخرطوم وغيرها من العواصم الباحثة عن مساندة الاشقاء في لحظات الازمات، بتقديم كشوف حسابات عما ساهمت به في القضايا العربية الكبرى، وهذه ليست محصورة فقط بفلسطين بل بنشر الديموقراطية واحترام الانسان العربي وتوفير مقومات العدالة الاجتماعية. وبما ان كشف الحساب هذا سيكون ضحلا، كما هو الحال بالنسبة الى الحكومات العربية الاخرى، فلا موجب يبرر الدفاع عن حكم تسلطي قمعي آخر، يرفع راية العروبة وقضاياها ساعة يشاء ويتنصل من تاريخه وضلاله ويعلن الولاء لأسياد العالم الجدد ساعة يجد منفعة. واذا كان من مؤامرة لها نصيب من الوجود المادي خارج خيالات lt;lt;مكتشفي المؤامراتgt;gt; فمسؤوليتها تقع على الأنظمة التي تمارس اعتى انواع التعسف بحق مواطنيها بحرمانهم من حقوقهم وبتبني سياسات تمييز عنصرية ودينية ضدهم ثم تتركهم نهبا للإغراءات الخارجية.
ورد في التوراة ان قايين المزارع قتل اخيه هابيل الراعي لأن الإله نظر الى قرابين هابيل ورفض قرابين قايين. وظهرت على مدى العصور عشرات التفسيرات لتفضيل الإله للرعي على الزراعة وللبداوة على الحضارة الخ... لكن اذا كان في الخرطوم او في غيرها من مدائن العرب من يعتقد بجواز اللعب على تناقضات مواطنيه المزارعين والرعاة او المنقسمين على غير هذا النحو من انواع الانقسامات، ودفعهم الى سياسة انتقام وتصفية بهدف دوام حكمه، فليس للعرب الا ان يصرفوا النظر عن أي نهضة الى حين يتم هابيل انتقامه.