هل العري والابتذال والانحلال في الأعمال الفنية هو ثمرة سيئة للحادي عشر من أيلول (2001) ؟ هذا ما يقوله الفنان المصري محمّد صبحي، كما نشر تصريحه في غير جريدة عربية. ويشرح الرجل رأيه بقوله: إننا صرنا نتعرّى وتحولنا إلى منحلّين، لكي نثبت لأميركا بأننا لسنا متدينين، بل ضدّ الإرهاب الذي يتهموننا به.
وكان مطربون كبار ومطربات ذوات شهرة قد هاجموا الموجة الجديدة من الغناء باعتبارها مؤامرة تستهدف وتهدد العرب فناً وثقافة وتراثاً.
هذه نغمة سائدة تعودنا عليها، لا سيما في أوساط الفنانين والمثقفين عامة: عندما تتجاوز الظاهرة الواحد أو لا تنال إعجابه، يهرب من المواجهة باستخدام سلاح التعبئة والتخوين، أو الخرافة والتضليل، هرباً من مجابهة المشكلات ودرسها.
هذا ما يفعله الغيارى على الآمة والهوية والعقيدة، أزمة بعد أزمة. إنهم يردون أسباب مصائبنا وكوارثنا إلى البرامج التلفزيونية والى نجمات الغناء اللواتي برزن مؤخراً على المسرح، وكأنّ المجتمعات العربية كانت تعيش في ممالك للفضيلة والسعادة، قبل نانسي وروبي وألسا وشيرين وهيفاء.
وهكذا فهم يقفزون فوق أسئلة الواقع، بقدر ما يتعامون عما يفتك بالمجتمعات العربية من الآفات والأمراض، كما يجسدها أباطرة الاستبداد أو حيتان الفساد أو الدجالين من الدعاة وتجار الإيمان.
وكان أولى بهم أن يسألوا أنفسهم: هل المجتمعات العربية هي من الضعف والهشاشة بحيث تهددها بالتفكك حفنة من المطربين والمطربات؟
ثم ماذا فعل الفنانون الملتزمون بقضايا الأمة والدفاع عن هويتها وثقافتها لكي يمنعوا من الوصول إلى ما وصلنا إليه من الانحلال؟ وإذا كان تشخيصهم صحيحاً، أفلا يحكمون بذلك بالفشل والإخفاق على أعمالهم ومساعيهم في الدفاع والبناء طوال عقود؟ ثم هل ظاهرة التعري في البرامج هي جديدة في الفن العربي؟
هل نتعامى بسبب هواجس الهوية عن الأفلام العربية القديمة حيث الراقصات البدينات يظهرن شبه عاريات؟!
وبسؤالٍ أصرح وأكثر حرجاً: هل الانحلال يُردّ الى أفلام العري والخلاعة؟ ماذا نسمي اذاً ما يجري في الغرف السرية من عقود شرعية، تبيح الدعارة تحت أسماء مختلفة، كالمتعة والمسيار والزواج العرفي؟
ماذا بشأن هذه الظاهرة التي استفحلت في مصر والتي ينخرط فيها فنانون وفنانات، والتي باتت حديث الناس في الصحف وعلى الشاشات؟
وإذا شئنا شواهد ناطقة من مجالات أخرى، كيف نفسّر ما يقوله رجل المقاومة في لبنان الذي يتباهى أهله بتحريره، من أن العملاء موجودون من الحدود الى الحدود، أي في كل مكان؟
وبالبقاء في لبنان، كيف نُفسّر اعتراف وزير الثقافة بأن أخبار الهدر والسرقة والفضائح والتهم المتبادلة تضج بها الشاشات والصحافة المكتوبة؟
هذا ما كان يجدر بالغيارى والحماة السؤال عنه ومراجعته أو تأمله ودرسه: الأوضاع المتردّية والمهترئة، بمشكلاتها المتفاقمة وأزماتها المزمنة. ولكن حراس القيم عندنا يهربون من الأسئلة والمواجهة، بقدر ما يفكرون بطريقة خرافية سحرية، وبقدر ما ينظرون إلى المشكلات بلغة الإدانة وعقلية المؤامرة. والثمرة السيئة هي تفاقم المشكلات وتلاحق الأزمات التي تفاجئنا من حيث لا نحتسب. وهذا مآل القفز فوق الوقائع: أن نفاجأ بما لا نريده أو أن نتغير نحو الأسوأ. وسوف نستمر على هذه الحال، ما لم نغلب منطق الدرس ولغة الفهم على الاعتبارات الأيديولوجية وعلى التقسيمات العرقية في تناول الظواهر ومعالجة المسائل.
القناع والرغبة
هذا ما يقودني الى ردّات الفعل على مقالتي حول برامج الغناء. ثمة من فوجئ بمتابعتي، البرامج الفنية، كونه لا يرى سوى الوجه الجدي من شخصيتي، غافلاً عن أن هذا الوجه مجرد قناع يخفي ما يمور ويعتمل من الأشواق والرغبات.
وهناك من استغرب تحيزي للموجة الجديدة من المطربات، وكأنني ارتكب بذلك إثماً أو خطيئة. هذا مع ان الواقع ليس على هذه الصورة. فأنا أتعامل مع هذه الظاهرة تعامل المراقب الدارس، لكي أفهم ما يجري. وما زلت في ذائقتي على القديم، بل الأقدم، دون أن أدافع عن موقفي، بمعنى أنني أوثر الاستماع إلى فيروز وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، على الذين أتوا بعدهم. فكيف بالموجات اللاحقة لهم! ولكن ذلك لا يعني أنني أتعامى عما يحدث ويتشكل من الظواهر الفنية، همي في ذلك أن أحيل علاقتي بالوقائع والأحداث إلى حقل للأسئلة أو الى شكل مختلف من الوعي أو الى تركيب مفهومي أو أداة منهجية أو قيمة تواصلية.
وهذا هو شأني مع بقية حقول كالشعر والفلسفة. ففي الشعر أنا استمتع بالطبع بقراءة شعراء العصر. ولكني أستمتع أيضاً بقراءة أحمد شوقي أكثر مما استمتع بقراءة كثيرين من المعاصرين. وفي الفلسفة، ولنأخذ ديكارت مثالاً، فأنا لا أنفك أعود إليه بقدر ما أتعامل مع نصوصه كإمكان مفتوح للتفكير بصورة حية متجددة. وما كنت أعترض عليه في مقالتي هو النظرة اللاهوتية الصنمية إلى الأعمال الفكرية، والتعامل مع أصحابها بلغة التأليه والتقديس والتعظيم. وهذه النظرة هي أبعد ما يكون عن موقف ديكارت، الذي كان من أكثر المفكرين تقىً وتواضعاً.
الجِدّة والمعرفة
أنتقل من ذلك إلى مناقشة التعليق الذي كتبه الأستاذ علاء الأعرجي المحامي والكاتب والباحث العراقي المقيم في نيويورك. وأنا أعتز وأفرح بشهادته حول ما تنطوي عليه أعمالي من الجدة والجرأة.
من حيث الجرأة، والتقحّم على ما يسميه، فإنه لا حاجة لتخيّل سيناريوهات فتاوى الردّة والحسبة. ذلك أن السؤال الذي يملي نفسه في ضوء ما نتكبده من الخسائر والمصائب هو الآتي:
من يجرؤ على مَنْ، بعد كل هذه المظالم والمذابح باسم الإسلام والعروبة؟ إن الذي يراجع نفسه ويتقي ربه وعباده، هو الذي يطلب الصفح والغفران من رب العالمين، والأهم أن يعتذروا من الناس وأن يفكوا وصايتهم على الأمة والهوية بعد كل هذه الارتكابات والفضائح التي تفاجئ الناس والعقلاء، فيما هي من جنى فكرهم، لو كانوا يعقلون ويتدبرون.
حقاً من يحاكم من؟؟ ونحن نشاهد، باسم الله الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، ذبح الأبرياء وقطع أعناقهم، بلا ذنب، ومن غير وجه حق؟
ومع ذلك ليست المسألة مسألة جرأة فكرية بقدر ما هي مسألة جدة معرفية. قد تُحمد الجرأة عندما لا يكون وراءها طلب الشهرة، بل إرادة الفهم، وذلك باقتحام المناطق المسكوت عنها أو الممنوعة من التفكير، بل الممتنعة عليه بسبب قوالب الفكر الضيقة أو أدوات الفهم المستهلكة.
أين هي البربرية؟
المهم في المسألة والذي يحتاج إلى المناقشة أن الأعرجي يعتبر أن الموجة الجديدة من الغناء هي من الفنون الوافدة على ثقافتنا ومجتمعاتنا، أي على ما يسميه lt;lt;العقل المجتمعيgt;gt; بحسب مصطلحه وأطروحته التي وعدنا بأنها سوف تصدر عما قريب في كتاب جديد.
غير أن الواقع هو غير ذلك، بمعنى أن الموجات الجديدة في الغناء والشعر والرسم والعمارة وسوى ذلك من حقول الفن والأدب، إنما تلاقي معارضة قوية داخل المجتمعات الغربية نفسها.
وأنا عندما تطرقت إلى نقاد هذه الظاهرة التي يعتبرونها ثمرة من ثمار العولمة، كان في ذهني كتاب وفلاسفة غربيون. أشير من جديد إلى جان بودريار الذي يعتبر العولمة بمثابة وباء فتاك لإلغاء الخصوصيات الثقافية. أشير أيضاً إلى رئيس تحرير جريدة lt;lt;لوموند ديبلوماتيكgt;gt; اينياسيو رامونيه الذي هو صاحب الرأي القائل بأن العولمة تفضي إلى تسطيح العقول والثقافات والأجساد.
أشير أخيراً إلى فيلسوف فرنسي آخر هو جان فرنسوا ماتيه الذي كان يحضر في ذهني عندما تحدثت عن ثقافة الأعمدة. فهذا المفكر يتباكى على الأعمال الثقافية والفكرية القديمة والحديثة، كأعمدة الأولمب، إذ يعتبرها تُجسّد التماسك والعلو والرفعة والنخبوية والرقي الحضاري، فيما يستبعد المنتجات الثقافية المعاصرة المدرجة تحت خانة ما بعد الحداثة، كأعمال جاك دريدا، إذ يعتبرها تُجسّد التفكك والانحلال بل البربرية. ومع أن ماتيه يعتبر أن البربرية هي داخل الإنسان، لا خارجه، فإنه لم يتساءل على ما كان يُفترض، كيف أمكن بعد كل هذه التُحف والروائع والمآثر في الفن والأدب والفلسفة أن نصل إلى ما وصلنا إليه من البربرية، وتلك هي ثمرة المنزع الأصولي في التفكير، أي قياس الحاضر على الماضي للحكم عليه بالسلب والعدم. ولا عجب فالأصولية، أكانت فلسفية أم دينية، مآلها نفي الواقع واستئصال المختلف أو الجديد.
نماذج الهوية
في أي حال، هذه الأمثلة تدل على أن المسألة لا تتعلق بصراع بين عقل مجتمعي وآخر، بل بالصراع داخل كل عالم ثقافي أو فضاء مجتمعي، بين هويات مختلفة ورؤى متضاربة. هذا الصراع الإيديولوجى يوجد ويحدث بين فرنسا والولايات المتحدة، كما يعمل ويفعل داخل كل من هذين البلدين.
وهكذا لا يدور الصراع حول معايير الفن والقيم الثقافية فقط بين العربي وسواه أو بين الغرب والإسلام، وإنما هو صراع يخترق مختلف المجتمعات والثقافات. إنه صراع داخل الهوية الثقافية الواحدة، بين أساليب وأذواق أو بين قيم ومعايير، بل بين نمطين من العقول... عقول طوباوية مغلقة يمارس أهلها التبسيط أو التهويل، بقدر ما يحتكرون المعنى والمشروعية أو يمارسون الوصاية على شؤون الأمة والحقيقة؛ يقابل ذلك عقول منفتحة يعمل أهلها بمنطق تعددي تركيبي من أجل تبادل المنافع والخيرات عبر تداول القيَم والأفكار.
وعندما نحكم على الموجات الجديدة من الفن، بوصفها lt;lt;وافدةgt;gt;، يخشى أن نقع في نفس المطب الذي وقع فيه الدكتور محمد عابد الجابري. فهو فيما أخضع العقل العربي للدرس المعرفي والتحليل النقدي، وجد أن الخلل في هذا العقل مصدره الخارج، أي ما سماه العقل المستقيل الآتي من التراث العرفاني والهرمسي والفارسي. ومعنى ذلك أن غيرنا قد غزانا لكي يُخرب عقولنا الخالصة من شوائب اللامعقول. وهذه قاعدة عقيمة راسخة في العقول عندنا: رمي المسؤولية على الغير، في ما تعاني منه أوضاعنا من الخلل والعلل والآفات، والثمرة هي بالطبع المزيد من الجهل والقصور والتراجع.
هذه الآلة الفكرية، أي الهرب من نقد الذات، لرمي المسؤولية على الغير، هي وجه من وجوه عملة إيديولوجية، وجوهها الأخرى: طمس واقع التفاعل بين الثقافات، أو الجهل بالأبعاد العالمية للمنتجات الثقافية في الفن والأدب والفلسفة، أو السطو على المنجزات الغربية في العلوم لنسبتها الى القرآن والإسلام. وتلك هي ثمرة النرجسية العقائدية والقوقعة الثقافية والتهويمات النضالية.
لنعترف بالحقائق، لكي نحسن صنع حقيقتنا: لا مجال للفصل بصورة حاسمة بين الخصوصيات الثقافية فيما نحن نلج الى زمن تتّسع فيه ظاهرة الانتقال والاختلاط والتهجين، بقدر ما يزداد العالم توحّداً برموزه ومعلوماته ومنتجاته وأدواته وشبكاته وخبرائه، فضلاً عن مصائره ومشكلاته الأمنية والبيئية والصحية.
ولننظر في أحوالنا المعيشية: إن أكثر ما نستهلكه أو نستعمله أو نتداوله مصدره الخارج، من الأدوات والتجهيزات الى أنساق المعرفة وبرامج المعلومات، ومن حليب الأطفال الى سراويل النساء، ومن الأفكار التي ندافع بها عن هوياتنا الى الأسلحة التي ندافع بها عن أرضنا.
نعم حتى الدفاع عن الهوية، في مواجهة ما نسميه الغزو الثقافي، إنما هو شعار حديث. ذلك أن حق الاختلاف الثقافي، كحق من حقوق الإنسان، بصيغتها الأحدث، لم يكن معترفاً به في المجتمعات الإسلامية قديماً، خاصة على المستوى العملي، حيث لم يتشكل الإسلام، على أرض الواقع، وفقاً لمنطق lt;lt;التعارف القرآنيgt;gt;، بل بحسب استراتيجية الرفض والإقصاء.
لا يعني ذلك أن الإنسان يعرى من انتمائه الى هوية ثقافية أو الى بيئة مجتمعية تؤمّن اللحمة والتضامن أو الحماية والملاذ. ولكن هناك نمطان في التعامل مع الهوية: يحضرني الآن شاهد حي: إنّ رئيسة الفيليبين كانت ترقص فرحاً كالأطفال عند تلقيها نبأ الإفراج عن الرهينة الفليبيني من براثن الوحش الأصولي الذي يرعب ويقتل في العراق. مقابل ذلك، هناك عندنا من يريد للناس أن يكونوا مجرد رهائن لمشاريعه المستحيلة التي تضعهم بين مخالب الإيمان الأعمى أو في جحيم الحلول القصوى، على ما يفعل أصحاب الدعوات الأصولية بهذيانهم العقائدي وهوسهم السلطوي وتجارتهم اللاهوتية الخاسرة، بل المدمّرة.
الشاغل المعرفي
نقطة أخيرة تحتاج الى الإيضاح، وهي تتعلّق بدور الكاتب والمثقف. وما أود قوله بل تكراره أنني لا أتعامل مع مهنتي كمفكر عربي أو إسلامي. ولذا فإني لا أقف موقف المدافع اللاهوتي أو المنظر القومي. فمقتل الفكر الحي أن يقع في براثن التقسيمات العرقية والدينية. والذي يعمل في حقل من حقول المعرفة، كالفلسفة وعلم الاجتماع أو الاقتصاد، شاغله يكون تجديد أطر النظر وأدوات الفهم أو مناهج التفكير وصيغ العقلنة، بصرف النظر عن الاختلاف أو الصراع بين الهويات الثقافية والخصوصيات المجتمعة.
من هنا اهتمامي ببلورة مفاهيم تعني العربي بقدر ما تعني غيره، مثل نقد النص، استراتيجية القراءة، المنطق التحويلي، العقل التداولي، الفن المتعدّد، الإنسان الأدنى؛ لا سيما أنني اعتبر أن الأزمة أصبح لها طابعها الكوكبي، في زمن يسود فيه التوتّر الكوني ويتقهقر الأمن العالمي. من غير ذلك أخشى أن أتحوّل الى مدافع فاشل عن هويتي وأن أفقد مصداقيتي بقدر ما أتعاطى مع مهنتي المعرفية بصورة هشّة أو عقيمة.
هذا ما يحملني على أن لا اتمترس وراء مقولة الخصوصيات الصافية أو الهويات الموروثة، بقدر ما يحملني على الاشتغال بكسر الثنائيات والتصنيفات السائدة التي تتحكّم بالعقول، لكي تُنتج الخسائر والهزائم والكوارث.
الأولى ثنائية الخاصة والعامة، لا سيما أننا ننتقل الى مجتمع المعلومة واقتصاد المعرفة، حيث لا عمل ولا إنتاج من غير معرفة أو اختصاص. لقد فقدت مقولة الخاصة والعامة مصداقيّتها، في مجتمع الاختصاص والمعرفة، لا سيّما بعد كل الدمار على يد النخب والقيادات الثقافية والسياسية والعسكرية التي تُفكّر وتعمل لتثبت بأنها بيت الداء وجرثومة الفساد. ولنقرأ ما يقوله الأميركي الفين توفلر، الخبير بالشأن المستقبلي حول الإخفاق المتعلّق بالإرهاب وملف الحادي عشر من أيلول: كان يمكن للإدارة الأميركية أن تتعلّم من طلبة الجامعة كيف تفكر بطريقة استباقية فعّالة. مما يعني أن بوسعنا أن نتعلّم ممن نستبعده أو نتّهمه بالجهل، بوصفه ينتمي الى العامة. وفي أي حال، فأنا فيما كتبته عن برامج الغناء، لم أكن أتوجّه الى العامة، لأنني أتوجّه أساساً فيما أكتبه لعموم القرّاء من كتاب وغير الكتّاب. والدليل أن الذين علقوا على مقالتي هم من الكتّاب والإعلاميين. هذا مع حرصي على أن أنفتح فيما أكتبه، لا سيّما على صفحات الجرائد، على قضايا الساعة أو على المطالب الوجودية والأحداث الساخنة التي تستأثر باهتمام الشريحة الأوسع من القرّاء.
الثانية هي ثنائية المبدع وغير المبدع، وهي ثنائية جائرة ومسيئة الى الناس، على ما يستخدمها أهل القطاع الثقافي الذين يدعون احتكار المعنى والمعرفة، ويحتقرون الناس بقدر ما يخلعون على أنفسهم ألقاب العباقرة والعمالقة وأشباه الآلهة. وهذه من مساوئ إنسانيتنا ومن فضائحنا الخلقية كما تمارسها النخب الثقافية: أن نعتبر الفنّان أو الشاعر الفيلسوف أو العالم شخصاً فذّاً، استثنائياً، يحتاج الى كل التعظيم والتبجيل والتكريم، فيما نعتبر أن من يفني عمره ليؤمّن له حاجاته المعيشية، مجرد شخص عادي، مغمور، لا يحتاج الى تكريم، فهذا هو عين البربرية. وإذا كان قدر البشرية أو غباؤها أو هوسها او جنونها بمن تحب أن تمارس طقوس التأليه والتقديس والتعظيم تجاه بعض أفرادها، فلا ننتظرنّ سوى المزيد من الظلم والعنف والخراب.
الثالثة ثنائية الفاعل والمنفعل. وإذا كنت من الفاعلين، كما يقيم أعمالي الأستاذ الأعرجي، فإنني أفعل وأؤثر بقدر ما أنفعل وأتأثّر. فلا أحد يُنتج أو يفعل بصورة إيجابية وبنّاءة من دون توسّط سواه ومشاركته، وهذا شأن كل فرد في المجتمع، أيّاً كانت مهنته. إنما هو فاعل في مجتمعه. بل هذا شأن العاطلين والمهمشين والمقهورين، إنهم يفعلون أكثر مما يظن حملة مشاريع التغيير والذين يمارسون الوصاية على القضايا والحقوق والمصالح، ولكنهم يفعلون بصورة سلبية أو عقيمة أو مدمّرة. والدليل ما آلت إليه هذه المشاريع على أرض الواقع من الفشل والإخفاق. وهذه ثمرة العقل النخبوي الفوقي الاستبدادي الذي يتوهّم اصحابه أن بإمكانهم أن يحلّوا محل غيرهم في التفكير والتخطيط والتغيير، فإذا بهم أقل من يقود ويفعل أو يُغيّر، ربما لأنهم أقل من يُفكّر بصورة خصبة وخلاّقة.
الرابعة والأخيرة ثنائية الداخل والخارج، وهي أول ما يحتاج الى الكسر والتفكيك، لأنها تحجب أولاً واقع التأثيرات المتبادلة بين الثقافات والديانات قديماً وحديثاً، من سير الأنبياء الى منطق اليونان، ومن جبر الخوارزمي الى قانون ابن سينا، مثالاً على ذلك لا حصراً. بهذا المعنى يمكن القول بأن الثقافة الإسلامية، شأنها شأن أي ثقافة أخرى، لم تأتِ من محض الغيب أو الوحي، ولا هي هوية صافية أو منظومة مغلقة، وإنما هي ثمرة سلسلة تراكمات ومخاضات بقدر ما هي ثمرة انبجاس قوى حية في الداخل او ثمرة تفاعلات ديناميكية مع الخارج.
من جهة ثانية إن ثنائية الداخل والخارج تُستخدم لقمع حريات التعبير والتفكير، بحجة مقارعة الغرب أو مقاومة الاحتلال لتمويه المشكلات في الداخل والتستر على المظالم والفظائع في الداخل، على ما يتجسّم ذلك خاصة لدى أصحاب التحالف الإيديولوجي الجديد بين المحافظين من الإسلاميين الجدد، وبين الرجعيين الجدد من دينصورات الفكر القومي واليساري. بهذا المعنى ما تشكو منه المجتمعات العربية هو الداخل قبل الخارج، وما ينبغي أن نحذر منه ونقاومه هو هؤلاء الذين يريدون مصادرة القرارات للمقامرة بمصائر العباد والبلاد، بقدر ما يدافعون عن رؤى ونماذج ومواقف بائسة او بائدة او عقيمة.
خلاصة القول إنّ: ثنائيات الداخل والخارج هي مزيفة لأنها توظّف لطمس واقع التشابك والتداخل بين المصائر، بقدر ما تحجب الصراعات الحادة، داخل العوالم الثقافية، لا سيما داخل العالم الإسلامي، بين صنفين من القوى والتيارات والعقليات أو العقائد والمذاهب:
قوى تحاول احتكار التأويل والمعنى والحقيقة والمصداقية، كما هو شأن الأصوليات المغلقة التي تحاول تدمير صيغ العيش بين الناس في الداخل وفي الخارج. مقابل قوى يعترف أفرادها بغيرهم، ويدافعون عن وجهة نظرهم بالمداولة العقلانية، بقدر ما يعترفون بمحدوديّتهم ونسبيّتهم، من اجل التحاور مع الآخر والتعلم منه أو التبادل والاتفاق معه.
هذا هو الرهان فيما ندخل في العصر الكوكبي، حيث تتشكل هويات هجينة أصحابها متعدّدو اللغات والجنسيات والإقامات: التحرّر من ثنائية الوافد والأصيل بمختلف صيغها وآلياتها. فهي مقولة لا تنتمي الى لغة العصر. وما يمكن فعله الآن هو العمل على تحويل خريطة المفاهيم السائدة التي تقف وراء ما نعانيه من الخراب في القيم والممتلكات، من أجل المساهمة، كلٌ من منطلق اختصاصه، في تغيير خريطة القوى وبنية العلاقات أو ميزان التحالفات، وذلك باجتراح مساحات وصيَغ وآليات تجعل الحياة أقل عنفاً واضطراباً أو توتراً وجنوناً. ففي هذا الزمن المعولم، حيث تتغيّر صورة العالم في عصر المعلومة والصورة، يمكن أن تتغيّر نظرة الإنسان الى نفسه، بحيث يمارس هويته بوصفه متعدد الانتماءات والوجوه والأبعاد المحلية والكوكبية، الوطنية والإقليمية. وتلك هي أخلاقية الحوار والمناقشة، وعقلية الشراكة والمداولة.