من الصعب القول ان نظاماً معيناً تعرض في السنوات الاخيرة لحملة اعلامية شبيهة بتلك التي تعرض لها النظام السوداني, حتى نظام صدام حسين في العراق لم يتعرض لمثل هذه الحملة المدروسة، ذلك انه كانت تظهر بين الحين والآخر في الصحف الكبرى او على شبكات التلفزيون العالمية آراء تدعو الى الاخذ والرد مع بغداد, كانت هناك حتى آراء متحفظة عن السياستين الاميركية والبريطانية تجاه العراق, اما في موضوع السودان وكل ما له علاقة بما يحصل في اقليم دارفور ليست هناك سوى وجهة نظر واحدة تركز على ان القبائل العربية (الجنجويد)، التي توصف بأنها مدعومة من الحكومة، تشن حملة ابادة تستهدف القبائل غير العربية (اي السود), وتتحدث التقارير الواردة في كبريات الصحف الاميركية والبريطانية والاوروبية عن مجازر ترتكب في حق السود, وعندما تعرض احدى الشبكات الكبرى لقاء مع مقاتل من الجنجويد اعتقلته السلطات السودانية في اطار الحملة التي شنتها اخيراَ لضبط الاوضاع في دارفور، يرافق اللقاء تعليق فحواه ان السلطات السودانية طلبت من المقاتل نفي اي علاقة له بها وهو يفعل ذلك عن غير قناعة!.
ذهبت الحملة على السودان في شراستها الى حد القول ان على المشاهد الا يصدق ما يقوله مقاتل الجنجويد في شأن عدم علاقة السلطات السودانية بالمجازر، وان الثابت ان ما يدور في دارفور نزاع بين السلطة وجزء من شعبها وان هذه السلطة لم تحم من الابادة مواطنين سودانيين، وفي النهاية لا بد من ملاحقة مرتكبي المجازر، اي القيّمين على السلطة.
بكلام اوضح يبدو مطلوباً الانتهاء من النظام السوداني الحالي واستبداله بنظام آخر قادر على التعاطي مع المرحلة الجديدة التي يبدو البلد مقبلاً عليها, ومن دون رحيل النظام لن يكون هناك سلام في السودان كما ان التنازلات التي قدمت حتى الآن للتوصل الى اتفاق مع «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة العقيد جون قرنق لا قيمة لها، وعلى النظام ان يقدم اكثر من ذلك بكثير,,, اي التضحية بوحدة البلد.الواقع ان جرائم ومجازر ارتكبت في اقليم دارفور، لكن المراقبين المحايدين يعتقدون ان المسؤولية لا تقع على السلطات السودانية وحدها, ويتساءل هؤلاء: لماذا اثيرت قضية دارفور فجأة وفي وقت كانت الحكومة على قاب قوس او ادنى من التوصل الى اتفاق نهائي مع قرنق يفتح الابواب على مصراعيها امام دخول السودان مرحلة جديدة يجري خلالها البحث في هدوء عن حلول للمستقبل بما يسمح للبلد اخيراً بالتقاط انفاسه, وتشمل هذه الحلول اعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير؟
لا شك ان جهات كثيرة تتحمل مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع في دارفور, في مقدم هذه الجهات قوى اقليمية عملت في استمرار على احتواء حركات التمرد والمعارضة السودانية وتشجيعها وتقديم المأوى لها, وهذه القوى تخشى ان يؤدي الاستقرار في السودان الى حرمانها من القدرة على ممارسة ادوار اقليمية تعتبرها قضية حياة او موت بالنسبة اليها, اكثر من ذلك ان هذه القوى تعتبر ان استقرار الاوضاع في السودان سيمكن الخرطوم من تصفية حسابات قديمة معها, ولذلك تعمل هذه القوى على تشجيع اي تمرد يؤدي الى استمرار الوضع في السودان في حال من الغليان والى جعل الحكومة السودانية تكرس مواردها للقضايا الامنية بدل استخدامها في مجال التنمية وتحسين الحال المعيشية للمواطن العادي.
لا يمكن القاء المسؤولية على قوى اقليمية لا تريد الخير للسودان وتعتبر انها ستتضرر من اي استقرار في هذا البلد فحسب، بل هناك قوى اساسية، ايضاً على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا لديها مخططات خاصة بالسودان, والا كيف يمكن تفسير هذه التعبئة في الاعلام الاميركي والبريطاني في شأن كل ما له علاقة بدارفور وكيف يمكن تفسير ذهاب وزير الخارجية الاميركي كولن باول الى الاقليم بعد زيارة قصيرة للخرطوم لم يخف خلالها امتعاضه من تصرفات الحكومة السودانية, وكيف يمكن ايضاً تفسير تلك الحماسة التي ابداها الامين العام للامم المتحدة كوفي انان الذي زار دارفور بدوره من اجل زيادة الضغوط على الخرطوم عبر التلويح بسيف العقوبات التي يمكن ان يتخذها مجلس الامن في حق السودان, هناك ادوات اقليمية تستخدم في الحملة على السودان وما كانت لهذه الادوات ان تنجح في حملتها لولا الدعم الاميركي والبريطاني الذي يجد صداه لدى الامين العام للامم المتحدة, لكن ذلك لا يعني انه لا توجد مسؤوليات سودانية وعربية سهلت الحملة, فقد كان يفترض في السلطات السودانية ان تتنبه منذ فترة طويلة الى ان الوضع في دارفور قابل للاتجاه نحو الاسوأ، وكان عليها ان تتصرف منذ البداية بطريقة تؤكد انها لا تفرق بين مواطن ينتمي الى قبيلة عربية وآخر ينتمي الى قبيلة افريقية, وهذه التفرقة هي التي سهلت على الادوات الاقليمية التدخل في السودان وهي في الأساس تحول قسم من السودانيين مادة قابلة للاستخدام من آخرين, كان يفترض في الحكومة السودانية ان ترسل الى دارفور قوات كبيرة من الشرطة والجيش قبل خراب البصرة وكان متوقعاً ان يترافق ارسال هذه القوات مع اجراءات محددة تؤكد الخرطوم من خلالها انها بعيدة كل البعد عن الجنجويد, وكان مهماً ان تقول الخرطوم منذ البداية انها لا تمانع في وصول المساعدات الى اهل دارفور بدل ان تخوّن هذه الجهة او تلك، وقد تكون هذه الجهة عربية لمجرد انها قبلت ان تكون قناة لوصول المساعدات الى الاقليم واهله.
كذلك، كان يفترض في العرب عموماً وربما عن طريق جامعة الدول العربية اتخاذ موقف مما يحصل في دارفور لتأكيد انهم لا يفرقون بين مظلوم وآخر وانه ليس كافياً ان يتعرض للظلم سوداني من اصول غير عربية ليصير الامر عادياً, لو اتخذ العرب منذ البداية موقفاً من الظلم الذي لحق بأهل دارفور لكانوا وفروا الكثير على السودان ولكانوا في وضع يمكنّهم الآن من القول انهم يدينون الحملة الشرسة التي يتعرض لها هذا البلد.
ان المشكلة العربية تكمن حالياً في ان جامعة الدول العربية غائبة عن الاحداث ولا يصدر عنها موقف او تقدم على تحرك الا بعد فوات الاوان, والحقيقة ان المسؤولية ليست مسؤولية الجامعة كجامعة بل مسؤولية الانظمة العربية عموماً التي دخل معظمها في غيبوبة منذ فترة طويلة, وتعود هذه الغيبوبة اساساً الى عدم القدرة على اجراء الاصلاحات المطلوبة بما يمنع هذه الانظمة من مواجهة الواقع كما هو, وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كان يفترض في الانظمة العربية كلها اتخاذ موقف جريء من العمليات الانتحارية, تلك العمليات التي لم تستفد منها سوى حكومة ارييل شارون وذلك لبناء سياسة عربية ايجابية على الصعيد الدولي تؤدي الى قطع الطريق على الجرائم التي ترتكبها اسرائيل على رأسها جريمة بناء «الجدار الامني», فماذا فعل العرب غير التفرج على الجدار يبتلع الارض؟.
لو صدر موقف عربي باكر تجاه دارفور، لكان في استطاعة العرب مساعدة السودان في مواجهة الحملة التي يتعرض لها ولكان في استطاعة العرب المزايدة على الادارة الاميركية في كل ما له علاقة بالقضايا الانسانية.
قد لا يكون كل هذا الكلام مفيداً لانه اقرب الى الترحم على الماضي من اي شيء آخر وعلى فرص اضاعها العرب والسودانيون، لكنه لا بد من التنبيه الى ان الحملة التي يتعرض لها السودان ليست بريئة وان السؤال الاساسي يظل: هل سيتمكن البلد من المحافظة على وحدته ام لا؟ وكل ما يمكن قوله على هامش طرح هذا السؤال هو ان اميركا بعد الذي فعلته في العراق وفي ظل المواقف التي صدرت عنها تجاه السودان واقليم دارفور تحديداً، تعيد بالفعل رسم خريطة المنطقة فيما نحن نتفرج ونتساءل هل ستفعل ذلك؟