اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية الساحقة من الاصوات واستنادا إلى قرار المحكمة الدولية في لاهاي، قرارا يحظر على اسرائيل الاستمرار في بناء الجدار ويطالبها بازالته على الفور. ومن المعروف ان اسرائيل بررت عملية بناء هذا الجدار بأنه يضمن لها الامن. ومن الممكن اعتبار ان هذا الجدار حتى لو اقيم على الخطوط التي حددها مجلس الامن في قراره 242، او بقول آخر على الحدود الاسرائيلية قبل حرب 1967، والتي تعترف بها عمليا الدول العربية، يمكن ان يثير الاعتراضات المعنوية من جانب المجتمع العالمي، إذ لا يزال حيا في الذاكرة جدار برلين الذي اقامته جمهورية المانيا الديمقراطية لعزلها عن برلين الغربية. والثابت أن المجتمع الدولي المعاصر لن يقبل بقيام مثل هذه الجدران التي تقسم الشعب إلى اجزاء او تفصل الشعوب بعضها عن بعض.
أما عن الجدار الذي اقامته اسرائيل، فالامر لا يتعلق بالجانب المعنوي وحسب، فالجزء الاعظم من هذا الجدار اقيم في الاراضي التي احتلتها اسرائيل في «حرب الايام الستة» والتي يجب ان تعيدها اسرائيل إلى العرب بموجب قرارات مجلس الامن. والمقصود هنا تلك الاراضي التي يجب ان تقام عليها الدولة الفلسطينية.
وتعليقا على قرار المحكمة الدولية في لاهاي حول الجدار الذي اقامته اسرائيل، اعرب دنيس روس، الخبير الاول في شؤون الشرق الاوسط لدى الرئيس جورج بوش الأب، عن سخطه بالقول :«ان أمن اسرائيل يعني بالنسبة للمحكمة اقل مما تعنيه تلك الاراضي التي كان يمكنها ان تضمها».
انه منطق يثير الذهول! فذلك يعني في جوهره الاعتراف بحق الاستيلاء على اراضي الغير دفاعا عن الامن. انه واذا ما جرى السماح بمثل هذه الافعال فانه من الممكن ان تسود القرارات الاحادية الجانب ليغرق العالم في الفوضى وعدم الاستقرار.
وجدير بالنظر ان المحكمة الاسرائيلية العليا اتخذت منذ أيام قرارا يقضي بالزام الحكومة بتغيير مسار الجدار، نظرا لأن بناء الجدار في عدد من قطاعاته «يربك الحياة الطبيعية للعرب». ولمزيد من الدقة اشير إلى ان المقصود لا يدور بطبيعة الحال حول ان المحكمة الاسرائيلية ادانت بناء الجدار. فهي ارادت فقط اجراء عدد من التغييرات الشكلية من خلال تعديل مساره بعض الشيء. ومع ذلك فمثل هذه الواقعة تبدو ذات دلالة، كونها أتت من المحكمة الاسرائيلية!
وسارعت الحكومة الاسرائيلية بالاعلان عن رد فعلها. فقد اكدت انها لن تقبل بأية قرارات من جانب الجمعية العامة وانها ستواصل عملية بناء الجدار. وذلك يعكس التجاهل التام لارادة المجتمع الدولي على نحو بالغ الحدة. وفي الوقت نفسه يلقي بعضا من الضوء على رد الفعل بالمضي في تقليد مواصلة البناء في الاراضي المحتلة وليس فقط في الضفة الغربية لنهر الاردن، بل ايضا في قطاع غزة. ومن المعروف ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون اصر على ما يسمى بـ «الفصل من جانب واحد عن الفلسطينيين». وكان الحديث يدور حول جلاء كل المستوطنات الاسرائيلية من قطاع غزة، وكذلك كل القوات الاسرائيلية من هناك. وقد اضطر شارون إلى تبرير سلامة موقفه في نقاشه مع زملائه في حزب «الليكود» مغامرا حتى بالانتخابات البرلمانية الجديدة ومن ثم باستقالة الحكومة. وفي نهاية الامر، وبدعم من جانب واشنطن، جرى تمرير خطة الفصل من جانب واحد. فماذا يعني كل هذا التدبير على ضوء المؤتمر الصحافي لحركة «السلام الآن» الذي عقد منذ عدة ايام؟ لقد عرضت هذه الحركة صورا ظهرت فيها كيفية التوسع في بناء المستوطنات الاسرائيلية في قطاع غزة.
لقد توقفت حكومة شارون منذ ثلاثة اسابيع عن تمويل مثل هذه العمليات من البناء. لكن ذلك لم يوقف التوسع في بناء المستوطنات نظرا لأن المستوطنين راحوا يحصلون على الأموال اللازمة لذلك من مصادر خاصة، وذلك أمر لا تحول الحكومة الاسرائيلية دونه.
ان الرأي العام العالمي يقف بشكل واضح ضد بناء الجدار الاسرائيلي في فلسطين. لقد عدت أخيرا من سالزبورغ حيث شاركت في اجتماع مجلس التنسيق(Interaction Council) الذي يتشكل من رؤساء الدول والحكومات السابقين. وهذه منظمة ذات وزن يشارك في أعمالها الشخصيات التي قامت وتواصل القيام بدور مؤثر في السياسة الدولية. وقد اتخذ المجلس قرارا يدين اسرائيل بسبب عدم انصياعها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهكذا تبدو عزلة اسرائيل بسبب عملية بناء الجدار عزلة تامة. فهل يدفع ذلك مصممي وبنائي الجدار إلى التوقف عن هذه العملية؟

* رئيس الحكومة الروسية الأسبق