الآخرون يتمنونه والصينيون يشتكون منه

كتب د. عبدالله المدني: في الوقت الذي تجاهد فيه دول كثيرة من أجل رفع معدلات نموها الاقتصادي ، فان الصين تعمل في الاتجاه المعاكس محاولة كبح جماح معدل نموها السنوي الذي وصل في العام الماضي إلي 9.1 بالمئة وتجاوز نسبة 9.7 بالمئة في الربع الأول من العام الجاري.

والمشكلة التي تواجهها هذه البلاد بلغة الاقتصاديين هي أن اقتصادها وصل إلي حالة السخونة المفرطة overheating التي من علاماتها عدم توازن الطلب مع العرض في قطاعات حيوية ، الأمر الذي يستدعي جملة من الإجراءات لخفض معدلات النمو تدريجيا إلي مستويات مقبولة منعا لحدوث انفجار.

وبطبيعة الحال فان ما يعرف بالاقتصاد الساخن hot economy أمر جيد لأنه يحسن الدخول ويراكم الثروات ويزيد من فرص العمل ويعزز أيضا عائدات الدولة من الضرائب والرسوم. لكن الإفراط في السخونة سيؤدي لا محال إلي حدوث تناقضات اقتصادية و ظهور السلبيات التي قد تعصف بكل الايجابيات ، خاصة إذا كان مجمل النشاط الاقتصادي يعتمد في حراكه وتوسعه علي الموارد الأولية.

و تجسد الحالة الصينية هذه الظاهرة تجسيدا واضحا. فخلال السنوات العشر الماضية حدث توسع هائل في الصين في مشاريع البنية التحتية و قطاعات الإنشاءات والعقارات والصناعة ، الأمر الذي ارتفع معه الطلب علي الطاقة إلي مستويات غير مسبوقة ، محولا البلاد من دولة مكتفية ذاتيا في النفط إلي مستوردة لثلث احتياجاتها من هذه السلعة. وتشير إحصائيات العام الماضي إلي أن الصين صارت ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم متجاوزة في ذلك اليابان ، وأن معظم النفط المستهلك فيها يذهب إلي القطاع الصناعي المتنامي بسرعة صاروخية.

لكن الحاجة المتزايدة للنفط مع كل ما يمثله من تحديات في ضوء أسعاره المرتفعة راهنا ، ليست المشكلة الوحيدة الناجمة عن تسارع وتيرة النشاط الاقتصادي. فتكالب الشركات والأفراد علي الاستثمار في القطاع الصناعي والإنشائي والعقاري بحثا عن الأرباح الكبيرة والسريعة أدي إلي تحويل المزيد من الأراضي الزراعية إلي أراض صناعية وسكنية. واستخدمت في هذه العملية وسائل مختلفة لا تتسم بالنزاهة والعدالة ويشوبها الكثير من الممارسات الملتوية بحق الفلاحين ممن تمسكوا بأراضيهم وأعمالهم التقليدية. وكانت النتيجة أن تقلص القطاع الزراعي وانخفض حجم ناتجه مسببا ارتفاعات متتالية في أسعار المواد الغذائية التي كانت علي مدي سنوات تتميز بالاستقرار. وفي هذا السياق تشير الإحصائيات إلي أن معدل الزيادة السنوية في أسعار زيوت الطعام والخضروات والحبوب هو 27 و 19 و 11 بالمئة علي التوالي.

ولم تنحصر الآثار السلبية في هذا الأمر فحسب ، وإنما تجاوزته إلي ارتفاع أعداد المهاجرين من الأرياف إلي المدن والحواضر بحثا عن فرص العمل ذات المردود المالي المجزي و السريع. ومثل هذه الهجرات عادة ما ترافقها مظاهر استغلال و مشكلات اجتماعية وضغوط علي الخدمات والمرافق والمواصلات، لكن الأسوأ من ذلك أنها تخلق نقصا خطيرا في الأيدي العاملة الزراعية. ويقال أن بكين تدرس حاليا استقدام مزارعين من فيتنام لسد النقص في أعداد المزارعين في مناطق ريفية معينة.

إلي ذلك أدي الإفراط في التركيز علي الصناعة و الاستثمار العقاري إلي زيادة الطلب علي مواد معينة مثل الحديد و الألمنيوم والاسمنت بصورة غير مسبوقة عالميا. ولعل أكبر دليل علي هذا هو أن ثلث الإنتاج العالمي من الحديد صار يستهلك اليوم في الصين وحدها ، حيث وصل إجمالي الطلب علي هذه المادة الأولية في العام المنصرم إلي 260 مليون طن ، أي أكثر مرتين ونصف من إجمالي إنتاج دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة.

وفي محاولة لمواجهة الطلب المتزايد علي هذه المواد وتحقيق الأرباح الكبيرة والسريعة ، لجأ البعض إلي الاستثمار المفرط في صناعة الألمنيوم والاسمنت سواء عن طريق استخدام أصوله أو عن طريق الاقتراض من المصارف ، الأمر الذي تسبب في حدوث فائض كبير في هذه القطاعات الصناعية مقابل نقص في قطاعات أخري حيوية ، وعجز أصحاب القروض الاستثمارية عن تحقيق الأرباح المأمولة وبالتالي دخولهم في مشاكل كثيرة مع المصارف المقرضة. وتجسد صناعة الأسمنت في الصين هذه الحالة أفضل تجسيد. حيث أدي تدافع المستثمرين منذ الثمانينات نحو التوسع في هذه الصناعة للوفاء بمتطلبات التعمير و مشاريع البنية التحتية إلي حدوث طفرة في الناتج تبوأت معها الصين المركز الأول في العالم لجهة إنتاج الاسمنت. وبحسب إحصائيات عام 2003 ، فان الصين أنتجت في تلك السنة ما يقارب 800 مليون طن من الاسمنت أو 40 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي . وقدر إجمالي الأموال التي استثمرت في إقامة مصانع الأسمنت في عام 2003 بحوالي 7 بلايين دولار.

وكان من الطبيعي أن ينجم عن الإفراط في التصنيع والبناء و التوسع الهائل في إنتاج الاسمنت وما شابهه تلوث البيئة بأشكال غير مسبوقة ، مسببا للبلاد مشكلة إضافية. فصناعة الأسمنت مثلا صارت تقذف في الهواء سنويا ما معدله عشرة ملايين طن من الأتربة ، وبالتالي أصبحت مسئولة عن 42 بالمئة مما تقذفه الأنشطة الصناعية المختلفة في الهواء من سموم و مخلفات. إلي ذلك تعرضت الأنهار للجفاف أو تلوثت مياها بفعل ما يقذف بها من مخلفات المصانع دون ضوابط ، وهذا بدوره أدي إلي نقص خطير في المياه الصالحة في بعض المقاطعات.

ولأن ساسة بكين علي علم بهذه السلبيات ، ويدركون مخاطرها في حالة ترك الحبل علي الغارب لأوجه الاستثمار ، فإنهم في محاولة منهم للجم الحراك الاقتصادي المتسارع في قطاعات معينة و تخفيض معدلات النمو المرتفعة ، اتخذوا منذ العام الماضي عددا من الإجراءات استهدفت تحديدا الحد من الاستثمار في صناعات معينة. ويأتي علي رأس هذه الإجراءات التحكم في حجم الأموال المتاحة لدي البنوك للإقراض وفي أسعار الفوائد المصرفية علي القروض. ففي سبتمبر من العام الماضي أصدر بنك الصين المركزي أمرا إلي المصارف بضرورة رفع احتياطياتها النقدية بهدف تقليص حجم السيولة المتاح لديها للإقراض ، وفي الوقت نفسه أمرتها برفع سعر الفائدة علي القروض المتجهة إلي الاستثمار الصناعي والعقاري. وكنتيجة لهذه الإجراءات شهدت الصين تراجعا في حجم الاستقراض من 275 بليون يوان في الأشهر التسعة الأولي من عام 2003 إلي 80 بليون يوان في أواخر العام المذكور.

لكن هناك من المراقبين من يشكك في فاعلية تلك الإجراءات لجهة الحد من النمو الاقتصادي المرتفع بصفة عامة أو الحد من الاستثمار في القطاعات غير المرغوب فيها. أما دليله فهو أن معدلات النمو ما زالت تسجل أرقاما عالية ، حيث وصلت في الربع الأول من العام الجاري إلي 9.7 بالمئة كما أسلفنا. وهذا يعني أن الكثير من الأوامر التي تصدرها السلطة المركزية في بكين إلي القيادات المحلية في هذا الشأن ، لا تجد طريقها إلي التنفيذ. وبطبيعة الحال فانه من الصعب في دولة مثل الصين توقع رفض حكام الأقاليم لأوامر قادتهم علنا وصراحة ، لكن ما يحدث هو التفاف بعض المسئولين المحليين علي تلك الأوامر بألف وسيلة و تبرير ، من اجل الاستمرار في الوضع القائم ، إما لأن هذا الوضع يخدم مصالحهم الخاصة أو لأنه يتناسب مع أوضاع وتطلعات أقاليمهم التنموية. وهنا يجب التذكير بأنه في حالة بلاد شاسعة مثل الصين تتفاوت فيها مستويات النمو من إقليم إلي آخر وتتباين فيها أهداف ومصالح الأقاليم ، من الطبيعي ألا تلقي القيود الموحدة الصادرة من بكين نفس درجة الانصياع في كل مقاطعات البلاد. وكدليل علي صحة ما نقول ، أمامنا مثال حي من إقليم جيانغسو الساحلي الذي شهد مؤخرا افتتاح مشروع ضخم لإنتاج الحديد ، علي الرغم من تحذيرات السلطة المركزية بوقف الاستثمار في هذا القطاع ، الأمر الذي لجأت معه بكين إلي استخدام القوة لإغلاق المشروع ومحاسبة العشرات من المسئولين و مدراء البنوك المحليين.

elmadani @batelco.com.bh

باحث وخبير في الشئون الآسيوية