كتب عادل مالك: كانت بيروت بكل دوائرها تراقب بدقة نتائج زيارة رئيس وزراء العراق اياد علاوي الى دمشق ليكون ضبط الإيقاع متجانساً ولتحدد جرعات حرارة اللقاء.وعندما جاءت الأخبار من سورية عن ايجابيات اللقاء العراقي - السوري، اطمأنت الخواطر واعتبرت بيروت نفسها بأمان. وعلى هذا الأساس تم استقبال علاوي بكل مظاهر التكريم. هذا على الصعيد الرسمي، لكن ردود الأفعال الأخرى تباينت كثيراً لدى بعض الأحزاب والتجمعات التي أصدرت بيانات قاسية ضد الزيارة ولم يتردد بعض هذه الأطراف المفرطة في المزايدات في الشارع اللبناني من المطالبة بعدم استقبال الزائر العراقي.

ومقابل هذه الأجواء السلبية استقطبت الزيارة اهتماماً كبيراً لدى أجهزة الإعلام، وعرف اياد علاوي كيف ينتهز هذه السانحة لشرح ما يجري في العراق من زاويته، أولاً لأنه يعرف أهمية بيروت كمنبر إعلامي متميز، وثانياً لأنه يدرك ان معظم التغطيات الإخبارية الصادرة من العراق وعن أوضاعه الأمنية تنقلها بعض الفضائيات العربية بأسلوب لا يرضي فريق الحكم في بغداد.

واعتبرت زيارة علاوي لبيروت ولباقي العواصم العربية الأخرى أنها حققت نجاحاً سياسياً وديبلوماسياً حيث يبدو الوضع العراقي بحاجة ماسة لمثل هذه الانجازات. وعمل رئيس وزراء العراق خلال جولته في معظم دول الجوار وعواصم القرار العربي على احتواء حال العداء التي سادت العلاقات العراقية العربية منذ نشوب الحرب الاميركية والبريطانية. وفيما كان علاوي يتابع جولته أطلق وزير الدفاع في الحكومة الموقتة تصريحاً من العيار الثقيل اذ اعتبر ان ايران هي العدو الأول للعراق: وكان لهذا الكلام وقع كبير، وأسقط في يد أكثر من مسؤول عراقي حاول التخفيف من وطأة تصريحات وزير الدفاع، الى آخرين اختاروا عدم التعليق لا بالسلب ولا بالايجاب.

وتصريحات الوزير شعلان لا يمكن أن تكون زلة لسان وردت اعتباطاً بل هو استند فيها الى معطيات معلوماتية عن تدخل ايران أو لنقل تدخل عناصر ايرانية في الشؤون الداخلية للعراق. وهذا التدخل اتخذ ولا يزال أشكالاً مختلفة منها التدخل الديني، والتدخل العقائدي الايديولوجي، ومنها بصورة أخص التدخل الأمني، والتدخل الاستباقي على طريقة الحروب الاستباقية لإرساء أكثر من موطئ وأكثر من قدم ايرانية على الساحة العراقية. وعكست هذه التصريحات لوزير الدفاع العراقي وغيره من المسؤولين، تبياناً واضحاً في النظرة الى الأمور، خصوصاً لجهة تحديد علاقات العراق الجديد بدول الجوار. وهذا الأمر أحدث انقساماً داخل أعضاء الحكومة الموقتة بين فريق بات على قناعة بأن العراق لن يعرف الاستقرار إذا لم تتم عملية تصفية ترسبات وتراكمات الماضي مع الدول المجاورة له.

وإذا ما توسعنا في ملف العلاقات العراقية ـ الايرانية نرى بأنها مرت بكل أشكال التوتر والاضطراب والاحتراب الشرس، ونتج عن ذلك صيغة مركبة وبالغة التعقيد، خصوصاً في الفترة الزمنية الممتدة ما بين قيام الثورة الاسلامية بقيادة الإمام الخميني العام 1979، الى الحرب الضروس التي تواصلت على مدى ثماني سنوات والتي «اختزلها» صدام حسين بجرة قلم وفي لحظة نزوة ومزاجية متقلبة بعدما كبدت هذه الحرب العراق وايران معاً أفدح الخسائر البشرية والمادية.

والإمام الخميني، كما هو معلوم، أمضى فترة إبعاد الشاه له عن ايران في العراق ليتوجه منه الى احدى ضواحي باريس وليقود «ثورة الكاسيت» التي حملته الى طهران بطلاً مظفراً قلب صورة ايران رأساً على عقب. واتصفت مسيرة العلاقات بين العراق وايران بخطوط شديدة التعرج واتصفت بعدوانية لازمت هذه العلاقات حتى سقوط نظام صدام حسين.

ومنذ الأيام والأسابيع الأولى لرحيل هذا النظام سعت ايران عبر أجهزتها المختلفة لأن تحجز موقعاً متميزاً في العهد العراقي الجديد، ومن جهتها عملت بغداد على فتح صفحة جديدة من تعاملها مع طهران فكانت زيارة الوفد الايراني للعراق أول زيارة لوفد من دول الجوار، ردت عليها بغداد بارسال وفد رفيع المستوى من اعضاء مجلس الحكم، وبدا وكأن الأمور تسير بشكل جيد. وهكذا مرت هذه العلاقات من العدوانية المطلقة الى طبعة أخرى يمكن أن نطلق عليها صفة «الأعدقاء».

وعندما قام السيد مقتدى الصدر بانتفاضته المعروفة قيل ان ايران كانت أول الداعمين لحركته، ولكن هذا الوضع تغير في الآونة الأخيرة بعد اكتشاف خطورة التغلغل الايراني في العراق انطلاقاً من الأماكن والعتبات المقدسة في النجف الأشرف وكربلاء. وعندما أرسلت ايران وفداً قيل انه جاء للقيام بدور وساطة، لكن مجلس الحكم وباصرار كبير من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر رفض ان يتم أي لقاء بين الوفد الايراني ومقتدى الصدر. وفعلاً لم يحصل مثل هذا الاجتماع. وفي اليوم التالي لوصول الوفد الايراني أعلن عن مقتل ديبلوماسي ايراني رفيع عن طريق سيارة مفخخة، وكان هذا الحادث رسالة واضحة من العراق الى ايران بعدم التدخل في شؤون العراق الداخلية.

والآن أصبحت المعركة مكشوفة بعدما قالت بغداد على لسان أكثر من مسؤول ان ايران وسورية يشكلان مصدر الخطر الرئيسي على استقرار العراق. وحتى لا نُعقّد الأمور أكثر مما هي معقدة في المنطقة، تجب الاشارة الى أن التجاذب العراقي ـ الايراني يدخل ضمن الدائرة الكبرى: الولايات المتحدة الاميركية واستطراداً سورية.

وفي حين تعتمد طهران على الاحتفاظ بسياسة التجاذب بينها وبين أميركا، لوحظ أن سورية انتقلت الى موقف جديد أكثر وضوحاً وأكثر ايجابية من خلال التفاهمات التي عقدها برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي مع الرئيس بشار الأسد، بالاضافة الى ما نتج عن لقاء علاوي مع الأسد كالاتفاق على اغلاق الحدود اغلاقاً تاماً وبإحكام، لمنع المقاتلين من عبور هذه الحدود الى العراق لمشاركة كل المقاتلين الذين قرروا المشاركة في المنازلة ضد الولايات المتحدة.

لكن الانجاز السوري ـ العراقي اذا ما تُرجم عملياً يمكن عندها تجييره للجانب الأميركي، لأن المعادلة القائمة حالياً انه كلما تأجج الوضع الأمني في العراق سارع الجانب الاميركي لتوجيه اللوم الى سورية. ومن شأن أي تقدم يتحقق في هذا المجال أن تكون له انعكاسات ايجابية في اطار العقوبات الاميركية المفروضة على سورية. وعليه تبدو المعادلة الآن في المنطقة على الشكل التالي: لو شهدت الفترة القليلة المقبلة أي تحسن واضح على صعيد التفجيرات والقتل الجماعي للعراقيين سينعكس ذلك على العلاقات السورية ـ الاميركية. وتبقى مشكلة «ترويض» الحكم الايراني. ففي اجتماع عقد في البيت الأبيض منذ فترة وخصص للبحث في «الحالة الايرانية» جرى التداول بما يمكن فعله للتأثير على واقع النظام في طهران وجرى طرح أفكار عدة منها:

ـ العمل على إذكاء الروح الثورية للشباب الجامعي وتحريضهم على القيام بالمزيد من عمليات التحدي ضد السلطة.

ـ عدم المشاركة الفعلية في الأحداث الداخلية حتى لا يظهر التأثير الاميركي وراء أي تصعيد، والاعتماد على «تصدير» الأفكار الداعية لقلب النظام من خلف الحدود المتقاربة جداً (تم الاستشهاد خلال المداولات بالحركة الاصلاحية التي قادها ميخائيل غورباتشوف والتي انتهت بالانهيار الكامل لما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي).

ـ أوجزت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش لشؤون الأمن القومي الوضع كما يأتي: لقد فشل الحوار بين طهران وواشنطن، وأي تغيير جزئي أو محدود التأثير لن يكون له تلك الفاعلية من الناحية العملية لأن طبيعة النظام في ايران لا يمكن ضمان نجاحه والحل الجذري والوحيد هو إعداد خطة محكمة تستهدف «الاطاحة الكاملة» بالنظام القائم.

وانطلاقاً من كل هذه الوقائع تجب مراقبة تطور مسار العلاقات بين العراق وايران، بالاضافة الى رصد أي تقدم ـ أو لا تقدم ـ يمكن أن يحدث أو لا يحدث على صعيد خط دمشق ـ واشنطن، خصوصاً مع تواصل العد العكسي للانتخابات الأميركية وما يعده الرئيس جورج دبليو بوش من مفاجآت طبيعية أو مفتعلة.

وسيبقى مستقبل الوضع في العراق مفتاح النجاح أو الفشل بالنسبة الى كل الاطراف المتداخلة علناً او خلسة. ولأن العديد من الصيغ والتوجهات قد جرّب لضبط الوضع الأمني وانتهت جميعها الى الفشل، وجد كولن باول المبادرة السعودية التي تقترح ارسال قوات عربية واسلامية الى العراق لمساندة القوى الاخرى. فهل تكون هذه المبادرة خشبة خلاص بالنسبة الى الاميركيين؟

ورغم ان الفكرة لا تزال في مراحلها الاولى لكنها لقيت ترحيباً فورياً وسريعاً من قبل واشنطن. وقد يكون التوسع في الحديث عن هذه الفكرة فيه بعض التسرّع لأن التطبيق اللوجيستي والعملاني لن يكون عملية سهلة، وهناك جنسيات عربية من دول الجوار لا تحبّذ الحكومة العراقية الموقتة استقدامها الى الداخل العراقي نظراً الى وجود الكثير من الحساسيات من وحي الماضي وتراكماته.

أما في الداخل الاميركي فالحوار على أشده بين مؤيدي الرئيس بوش ومعارضيه. وعلى سبيل المثال كتب توني جوت مدير معهد ريمارك في جامعة نيويورك في العدد الاخير من مجلة «نيوزويك» يقول: «... لقد بات معروفاً بصورة واسعة اليوم ان الثقة بين الديموقراطية الاقوى في العالم وحلفائها وصلت الى نقطة انحدار لم يسبق لها مثيل. فلا يوجد احد اليوم خارج الولايات المتحدة واسرائيل ممن يثق بالولايات المتحدة او برئيسها. وكانت اميركا في الماضي دولة يعجب بها الناس أو يُخشى طرفها أو تُحسد، أما الآن فهي باختصار دولة لا ثقة بها».

هل يقرأ أركان الادارة الاميركية من محافظين جدد ومستجدين مثل هذه الآراء؟ أم ان الرئيس جورج دبليو بوش ماض في سياسة «من ليس معنا فهو ضدنا» وفي هذه الحالة يمكن احصاء عدد الـ«مع» لانهم اقل بكثير من الـ«ضد».

٭ كاتب لبناني.