كتب محمد سعيد الرز: بين القصر الجمهوري والمقر البطريركي الصيفي في الديمان شمالي لبنان, مسافة طويلة, ملاى بالمحطات السياسية والجغرافية, التي تختلط فيها المواقف والذكريات والمواقع من ثورة "حدث الجبة" ويوسف بك كرم الى بشري عرين قائد القوات اللبنانية المسجون منذ عشر سنوات سمير جعجع الى حميد فرنجية وجبران خليل جبران وكرم ملحم كرم وسواهم ممن انطبع اسمهم في تاريخ لبنان انطلاقا من وادي قنوبين ومغاوره التاريخية التي لجا اليها اتباع مار مارون واطلقوا منها نواة الطائفة المارونية الشريكة الاولى والاساسية في البناء اللبناني.
هذه المحطات كلها, قطعها موكب رئيس الجمهورية اميل لحود حينما توجه الى الديمان والتقى البطريرك نصر الله صفير ورعى افتتاح "حديقة البطاركة", وطبيعي ان الرئيس اللبناني لم يكن يسعى في زيارته للحصول على البركة البطريركية دينيا, بل على المباركة البطريركية سياسيا لتمديد عهده عبر تجديده خمس سنوات اضافية بموجب تعديل الدستور, وهو حرص على اصابة هذا الهدف محاطا بتاييد شعبي خلال توقف موكبه في القرى والبلدات التي مر بها.
وبما ان الطريق الى الديمان, لم تكن سهلة تاريخيا, بل وصلت في مراحل معينة الى مستوى الوعورة البالغة التي تصدت لمحاولات الهيمنة والوصاية, ونفذ فيها البطاركة اعتصامات استنكارية بوجه العثمانيين, ولم يخرج البطريرك صفير عن هذا التقليد حين اعتكف هناك ضد ما اعتبره هيمنة سورية على لبنان.
فان وعورة هذه الطريق لم تكن خافية على الرئيس لحود لاعتبارات كثيرة, بدليل انه عمل على تمهيدها منذ سنة تقريبا بزيارات متتالية الى الصرح البطريركي اسفرت عن توافق على بضعة قواسم مشتركة ياتي في مقدمتها قانون الانتخابات النيابية على اساس القضاء, وليس المحافظة. في مقدمتها...
ولان افتتاح "حديقة البطاركة" هدفه سياسي بامتياز, فان السؤال الذي يطرحه كثير من اللبنانيين هو: اذا كنا نفتتح حديقة بطاركة, فماذا عن "مزرعة" الوطن?!
وفي مفهوم المزارع, فان كل زاوية, او قطعة من المزرعة, تختص بصنف محدد يقوم عليه مشرف معين, فمن يزرع له اسلوب مغاير لمن يحصد, وكذلك لمن يعتني بالدواجن, او بالطيور الجميلة, او بالدواب المنتجة, او المخصصة للنقل الخ.
ولبنان عاش, ولا يزال الى حد كبير, تحت وطاة ومظلمة مفهوم المزرعة, وسادت فيه شرعة حقوق المصالح, والطوائف, والفرق, والتجمعات, فوق شرعة حقوق الوطن والمواطن, ومن يريد الدليل على ذلك فليراجع خطابات القسم لكل رئيس جمهورية ياتي, بمن فيهم الرئيس لحود الذي تعهد بقطع يد السارق في خطاب قسمه, والسارق يوجد في المزارع اكثر منه في الاوطان, وهو في لبنان, بدلا من ان تقطع يده طالت اكثر خلال السنوات الست الماضية, وفي ملفات الفساد المفتوحة هذه الايام الخبر اليقين!
افتتاح حديقة بطاركة... عمل جيد فيه بركة سماوية بالمفهوم الماروني... فماذا على الارض, وماذا عن المزرعة?!...
يروي البابا شنودة, انه كان مرة في زيارة للبنان, وللمقر البطريركي الصيفي في الديمان, وهو جاء اليه من الاسكندرية, اي من مسافة ابعد بكثير من قصر بعبدا, واحب زيارة دير مار قزحيا القابع على كتف وادي قنوبين وفيه اقدم مطبعة عربية, ولاحظ البابا شنودة ان الطريق الى الدير, ضيقة وملتوية وتحفها الوديان السحيقة من اليمين والشمال, وعندما سحر السائق بجمال الطبيعة هناك ورفع يديه قائلا: ليتمجد الخالق, صرخ به بابا الكرازة المرقسية: ويحك, انا اعرف الخالق اكثر منك, فانا البابا, انما انت, لا ترفع يديك عن مقود السيارة وانتبه للطريق.
فهل قال البطريرك نصر الله صفير, صراحة او بديبلوماسيته المعهودة, للرئيس لحود خلال افتتاح حديقة البطاركة, انه يعرف الخالق اكثر منه, لانه البطريرك, اما هو فعليه ان يعرف كيف يقود, وينتبه للطريق?!

* مدير مكتب "السياسة" في لبنان
[email protected]