"الدين والسياسة في أميركا" لطارق متـري:

كتبت جمانة ابو الروس مفرّج: منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وبنوع خاص منذ هجمات 11 ايلول, تنزع التحليلات السياسية الى اعتماد خطاب ايديولوجي لتفسير العوامل المؤثرة في المجتمعات ان كانت عوامل تغييرية او عوامل محافظة وذلك مع تغليب للعنصر الديني في المكونات الثقافية للايديولوجيا.

وكثيراً ما تغفل التحليلات المتداولة القاعدة العقائدية التي تنطلق منها هي نفسها لمقاربة الظواهر السياسية. ومنذ بدء الحرب "ضد الارهاب", التي تشنها واشنطن ضد عدو يتخذ صورة الاسلامي المتشدد, تعتمد وسائل الاعلام الجماهيرية العالمية والعربية, المنطق الذي فرضه زعماء "القاعدة" وتبنته واشنطن, ويقول ان الاعمال الارهابية المستهدفة للمصالح الاميركية هي في الاصل اعمال تستهدف القيم والحضارة الاميركية.

ومع الاختزال والتعميم والخلط بين المفاهيم التي ترافق عامة, حالات الصدام سرعان ما ننتقل من استهداف المصالح والقيم ونمط العيش, الى استهداف الدين.

في هذا الاطار, يخرج "كتاب مدينة على الجبل? عن الدين والسياسة في اميركا", لطارق متري, عن السياق العام للتداول في مواضيع الدين والسياسة. فموضوع الدين في اميركا الذي يتناوله متري, الضليع في المعرفة العقلانية والوجدانية به, لا يتحول هنا الى مفهوم اختزالي للثقافة او مبرر للسياسة بل يقارب كظاهرة اجتماعية متأثرة بخلفية تاريخية وبعوامل اجتماعية - اقتصادية تؤثر في السياسة وتتأثر بها.

في اميركا جورج بوش المهيمنة على العالم والراغبة في توجيه انظمة الحكم فيه نحو الاتجاه المواتي لها, والذاهبة الى ابعد مما ذهبت اليه الحكومات الاميركية في دعمها لاسرائيل, يتناول "مدينة على الجبل?" بشكل اساسي واحدا من الاطراف الثلاثة المكونة للتحالف الذي يقال انه الموجه للسياسة الاميركية الحالية, وهو التحالف القائم بين الانجيليين المحافظين والمحافظين الجدد وجماعات الضغط اليهودية المؤيدة لليمين الاسرائيلي.

ومع تكرار التحذير من الجنوح الى الخلط "بين النوازع الدينية وشبه الدينية, والحسابات السياسية" يركز متري على التعرف على الخريطة الدينية للولايات المتحدة وبنوع خاص على "الانجيليين المحافظين" كما يسعى الى تسليط الضوء على المفاصل التحالفية لهؤلاء مع الطرفين الآخرين للمثلث النافذ.

دين مدني

اختار الكاتب عبارة "مدينة على الجبل" وهي مستعارة من انجيل متى: "انتم نور العالم, لا تخفى مدينة موضوعة على جبل..." للتعبير عن فرادة اميركا ونموذجيتها في نظر الوطنيين الاميركيين, المتدينين منهم بنوع خاص. وهي عبارة استعملها للدلالة على اميركا, الطهراني جون وينثروب في بداية استعمار القارة الجديدة كما استخدمها الرئيس الاميركي الراحل رونالد ريغان في خطابه الرئاسي الوداعي.

فالى جانب دين العقائد السموية والاحيائية الايمانية بشكل عام, تتميز "الحالة" الاميركية, كما يقول متري بوجود "دين مدني" يحدد معايير اخلاقية وسلوكية للامة وتشترك فيه بأقدار مختلفة اكثرية الاميركيين.

وتظهر علامات وجود هذا الدين المدني جليا في حفلة تنصيب رئيس الجمهورية التي تشكل "مناسبة لتأكيد اعطاء الشرعية الدينية لأعلى سلطة سياسية". كما تظهر في لغة الاميركيين عند الحديث عن الشؤون العامة.

هذا الدين المدني هو "مزيج خاص" من المثل المسيحية والقيم الانسانية العلمانية الا انه لا يتطابق مع المسيحية, حيث لا يأتي ذكر المسيح في الخطب الاحتفالية الوطنية المعبّرة عن هذا الدين. فالهه هو الاله الخالق, "اله النظام والحقوق والقانون, لا اله الخلاص والمحبة كما في المسيحية" كما يقول متري.

في خريطة الولايات المتحدة الدينية, ينزع اليوم المتدينون الليبراليون الى التقليل من شأن الفرادة الاميركية معتبرين ان الله يبارك اميركا بقدر ما يسعى الاميركيون الى تحقيق العدالة, فيما تتمسك القوى الدينية المحافظة باضفاء طابع القدسية على نصوص اميركا التأسيسية, وتعتبر طرق العيش الاميركية نموذجا يحتذى, وتتعلق تعلقا شبه ديني بالنظام الاقتصادي الاميركي.

بهذا تشترك القوى الدينية المحافظة, وابرز تياراتها اليوم هم الانجيليون المحافظون, مع "المحافظين الجدد" المنتمين اصلا الى مدارس فكرية متعلقة بالليبرالية السياسيـة والاقتصادية, في ابداء الحماسة تجاه مسلمات "الدين المدني" الاميركي.

يرسم الكاتب الخريطة الدينية لأميركا اليوم معتمداً على احدث الدراسات واستطلاعات الرأي. ويرى ان مذاهب الخط الرئيسي للبروتستنتية (تشمل المشيخيين والجمهوريين, وتلامذة المسيح والاسقفيين والميثوديين واللوثريين والمعمدانيين الاميركيين) لم تعد تعي نفسها بصفتها التيار الرئيسي في المجتمع, اذ ان الكاثوليك واليهود تكيفوا مع هذا الخط. ورغم تنوعها واختلافها في مواضبع عديدة, تتميز مواقف مذاهب هذا التيار بالتأكيد على فصل الدين عن الدولة.

في المقابل, يمثل تيار الانجيليين المحافظين المذاهب البروتستنتية الاعتراضية على الخط الاول ويتهمها بأنها فرّطت في جنوحها الى الليبرالية, بعدد من ثوابت الايمان المسيحي والاخلاقي. هذا التيار, يقول متري: "على غرار تيارات الاعتراض الديني قديما وحديثا, يستعيد نموذجا ماضيا ويستعير لغته". في الولايات المتحدة, يمثل الانجيليون المحافظون "المولودين من جديد" و"الاصوليين". علما ان ليس كل الانجيليين اصوليين وليس كل "المولودين من جديد" انجيليين محافظين (كما هي مثلا حال الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر الذي يصف نفسه بأنه "مولود من جديد" مع ان لا يمكن تصنيفه في خانة الانجيليين المحافظين).

اما الاصوليون, فيصفهم متري بأنهم فئة من الانجيليين المحافظين "غاضبة وناشطة" تعارض اللاهوت الليبرالي الحديث وبعض جوانب العلمانية في الثقافة المعاصرة. ولهذه المعارضة تبعات سلوكية على صعيد الاخلاق والتصرف الاجتماعي. ومن "خصائص الفكر والسلوك الاصوليين, الشعور بأن المؤمن يخوض نوعا من الحرب الدينية" في "معسكر الخير والشر" ضد "معسكر الشر والظلمة".

المثلث

تجاه السلطة يعتبر الاصوليون ان المعركة التي يخوضونها ضد التفسيرات الحديثة للكتاب المقدس دفاعا عن حرفيته, هي معركة "انقاذ الحضارة الاميركية" التي يشكل الكتاب المقدس دعامتها الاولى برأيهم. ومع ان الانجيليين الجدد منقسمون حول الموقف من السياسة, اذ يحبذ بعضهم الابتعاد عن الغوص في عالمها, فان العمل السياسي في نطاق الحزب الجمهوري وعلى اطرافه بات اليوم اكثر رواجا بينهم. ففي الانتخابات الرئاسية للعام 1980, دخلت حلبة المنافسة السياسية هيئات محافظة تعتمد خطابا اخلاقياً - دينيا للترويج لنفسها. ونمت الحركة الدينية السياسية الاميركية بشكل متسارع بعد ان انقلب انصار الرئيس جيمي كارتر المبشّر المعمداني الذي كان يصف نفسه بأنه مسيحي "مولود من جديد" الى المواقف المؤيدة لحقوق الانسان على حساب ما سموه "قيم اميركا المسيحية". وفي العام 1989, قام التحالف المسيحي Christian Coalition "الذي اضحى كتلة لا يمكن تجاهلها داخل الحزب الجمهوري" والذي, يقول طارق متري, ان ادبياته تميزت "بمحاولة اضفاء نوع من المعنى الروحي على الاعتزاز القومي الاميركي".

يعتبر دخول الانجيليين المحافظين المعترك السياسي في الولايات المتحدة, امراً حديثاً نسبياً اذ لطالما عزفوا عن الانخراط فـي العمل السياسي الذي شغله تقليـديـاً مريدو كنائس الخط الرئيسي التي باتت اليوم تتهم بـ"الليبرالية المفرطة". فهذه الكنائس كانت ذات قاعدة راسخة في الطبقات الوسطى والعليا ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي والثقافي, وكانت هي التي توحي بالشخصية الاميركية.

ومع مؤرخ المسيحية الاميركية, مارتين بي. مارتي يعود طارق متري الى نشوء ما عرف في ما بعد بكنائس الخط الرئيسي التي "ألّفت بين الليبرالية الاجتماعية و"الانجيل الاجتماعي" ولون من "الارثوذكسية العقدية المتجددة" وتأقلمت مع الحداثة. ويعيد بروز التيار المحافظ في منتصف القرن العشرين الى دور الوعّاظ واستخدامهم سبل الاتصال الحديثة.

وكان ابرزهم وليم فرانكلين المعروف ببـيلي غراهـام, ومـنهـم ايـضاً كان مارتـن لوثر كينغ, الداعية الاسود الذي اطـلـق حركة الحـقـوق المدنية لابطـال التمييز العنـصـري ضـد الـسـود.

ويقول الكاتب عن عودة الانجيليين المحافظين الى السياسة في الثمانينات من القرن الماضي انهم "عادوا الى الحياة العامة, بعدما زين لهم انهم اعادوا الدين الى قلبها وبعدما استجمعوا قواهم وتدربوا على اساليب العمل السياسي والانتخابي", وذلك بالرغم من اصوات عديدة ارتفعت في صفوفهم للتحذير من التسييس المفرط للعمل الديني خشية الوقوع في متاهات المساومات الملازمة للعمل السياسي والمرفوضة في النهج الاصولي للدين.

وعلى الرغم من زيادة نفوذه الملحوظة في المجال السياسي خلال السنوات الاخيرة, لم تحدث مساهمة التيار الاصولي المسيحي في الحياة العامة "الزلزال السياسي" الذي انذرت به, كما يلاحظ متري, اذ "لا يمكن اختزال اليمين في نظرته الى اميركا والعالم, وفي لغته وقيمه, بطغيان الاتجاه المسيحي الاصولي داخل الحزب الجمهوري وانجذاب الرئيس جورج بوش الحقيقي اليه".

لكن مع دخولهم المعترك السياسي, اعتمد رجال الدين المحافظون الحسابات التي يعتمدها رجال السياسة في خطبهم من حيث الحرص على "التوازن بين ما يريدون اقناع الناس به واسماعهم ما يحبون سماعه". هذا ما بدا في الخطاب الديني حول احداث 11 ايلول: فبعد محاولة اولى ارادت اضفاء بعد لاهوتي على الحدث بالقول ان الله يخاطب الناس بواسطة المصائب التي تنزل بهم, غيّر الدعاة المحافظون من لهجتهم وآثروا تمجيد قوة اميركا عندما رأوا ان الاميركيين لا يتجاوبون مع القراءة الاولى.

وعندما اندلعت الحرب ضد العراق, لم يرد التسويغ الديني للحرب على السنة الدعاة المحافظين بالقدر الذي كان متوقعاً, لان كنائس "الخط الرئيسي" البروتستنتية والكاثوليكية والارثوذكسية كانت قد سارعت الى الاجماع على رفض الحرب اللا أخلاقية واللا شرعية. لكن الانجيليين المحافظين امتنعوا عن القيام بحملات توعية دينية واخلاقية لمحاذرة العداء للاسلاميين والكره للاجانب بعد 11 ايلول, فيما ابدت كنائس التيار الرئيسي وعياً بالموضوع وادركت ان مهمة طويلة الأمد تقع على عاتقها في مواجهة حملات التجريح بالاسلام والحـض عـلـى كـراهـية المسـلمين.

غير ان النخبة الكنسية الليبرالية تبدو اليوم بعيدة عن نوازع القاعدة الذي يستهويها خطاب المحافظين الديماغوجي.

في تعاطيهم السياسة, تحالف الانجيليون المحافظون مع المحافظين العلمانيين ومع المجموعات الصهيونية الضاغطة في الولايات المتحدة من اجل مراعاة المصالح الاسرائيلية واشتركوا مع الطرفين المذكورين في تمجيد قوة اميركا والحضارة "اليهودية - المسيحية". علماً ان مفهوم "التراث المسيحي - اليهودي" والعبارة الدالة عليه انتشرا بعد الحرب العالمية الثانية وانفتاح البروتستنتية الاميركية من الخط الرئيسي, على بقية الاديان في العالم وليس فقط على اليهودية.

لكن شراكة الكاثوليك واليهود مع البروتستنت في الحياة العامة في اميركا, تحولت في خطاب الانجيليين المحافظين الى شراكة "يهودية - مسيحية" مقصية دور الاديان الاخرى (الاسلام وسواه) في الحياة العامة. في ذلك تلاقى الانجيليون مع حليفيهم اذ يُلاحظ لدى المحافظين بشكل عام, والعلمانيين خصوصا منهم, تخوف من التعدد الديني المتعاظم في الولايات المتحدة من حيث خطره على شخصية اميركا كما يفهمونها.

اتخذ التحالف المحافظ, المحافظ الانجيلي - العلماني, بعداً جديداً خلال الحملة التي أتت بجورج دبليو بوش الى الرئاسة الاميركية, وبعدها, "فنسجت (يقول طارق متري) علاقة تحالف سياسي" بين المحافظين الجدد, ومنهم عدد مؤثر من المثقفين اليهود (امثال ايرفينغ كريستول, ونورمان بودوريتز, وبول وولفوفيتز, وريتشارد بيرل) والجماعات الضاغطة العاملة لحساب اسرائيل والانجيليين المحافظين الناشطين في صفوف الحزب الجمهوري.

والتقى هذا التحالف على القول بـ"مسيحانية" سياسية محورها صلاح اميركا وعظمة دورها الانقاذي والتحرري في العالم ولو اختلف اطرافه على المضمون القيمي لرسالة الولايات المتحدة. فالحسابات السياسية تتغلب دائماً على النوازع الايديولوجية في هذا التحالف, لكن حتى اليوم, نجحت اطراف الاخير في اعادة توظيف الموقف السياسي لمصلحة الافكار الدينية وشبه الدينية التي تؤمن بها. يقول طارق متري, "تظهر هذه الحركة بين السياسة والايديولوجيا, وفي شكل واضح, في الدعم الذي يقدمه اطراف التحالف لاسرائيل بحكومتها اليمينية ومستوطنيها المتدينين المتطرفين, والذي تتقاطع عنده علاقات القوى الاميركية الداخلية والدور الذي يريده المنضوون في التحالف لاميركا في الخارج".

في هذا السياق, يستعرض الكاتب موقف الانجيليين المحافظين الآتين من كنائس ومذاهب مختلفة ودعمهم لاسرائيل وما ينطوي عليه ذلك من تصور للعلاقة بين الدين والسياسة يتعارض مع المواقف المسيحية. كذلك يستعرض الكاتب التناقضات القائمة بين مصلحة اليهود الاميركيين في استمرار فصل الدين عن الدولة في الولايات المتحدة, من جهة, وفي التطلع المبدئي للمحافظين الانجيليين الى تحويل الولايات المتحدة دولة مسيحية, من جهة اخرى.

ويعبر عن خشية قسم من اليهود من ان يؤدي تعاظم نفوذ الانجيليين المحافظين في السلطة الى احتكارها من جانب اصولية مسيحية متشددة.

لذا يرى الكاتب ان "الكلام عن ديمومة التلاقـي بين الانجـيليين المحافظين, واليهود من مؤيدي الليكود والمحافظين الجـدد, يفتقر الى قاعدة ايديولوجية ثابـتة", مما يستتـبـع ان هـذه القوى مرشحة للتباعد عندما يتعلق الامر ببعض القضايا الاجتـمـاعيـة - الاخـلاقـية والسـيـاسـيـة.

ويرى طارق متري ان "التباين حول العراق, القى الضوء على احتمالات هذا التباعد, لكنه لم يعدل شيئاً يذكر في اولوية السياسة, بما فيها ما يتصل بعلاقات القوى الانتخابية, على الايديولوجيا". لذا فان "زواج المصلحة" بين الاطراف الثلاثة للتحالف, يبدو اليوم, بحسب الكاتب, مرهوناً بتطورين:

اولاً, مكانة اسرائيل في وعي الذات عند اليهود الاميركيين, اذ انه من الممكن ان يظهر تناقض بين مصلحة اسرائيل كدولة ومصلحة اليهود الاميركيين في العيش في مجتمع منفتح (لنا في تصريحات زعماء اليهود الفرنسيين الشاجبة لدعوة آرييل شارون اليهود الفرنسيين للهجرة الى اسرائيل مثل على حالة وقوع شرخ بين مصلحة اسرائيل ومصلحة يهود مقيمين في دولة غربية).

وثانياً, التحولات الطارئة على ايديولوجيا الانجيليين المحافظين من جراء ولوجهم العالم السياسي, والتي تزيد من ناحية من نفوذهم السياسي (بفضل تحالفهم مع المحافظين الجدد) وتؤدي من ناحية اخرى الى تراجع مواقفهم الدينية المتشددة, مما يفقدهم قسماً من زخم التأييد الجماهيري, ومن القدرة على تقويم أنفسهم على انهم تيار اعتراض او مقاومة لـ"الاستبلشمنت" الاميركي, فالحلف قد ينكسر اذا ما قررت التيارات الانجيلية المحافظة, تغليب مواقفها المبدئية على حرصها على المشاركة في النفوذ السـياسي.

طارق متري, "مدينة على الجبل? عن الدين والسياسة في اميركا", دار النهار, آذار 2004.