كتب محمد صادق الحسيني: النص مأخوذ من كتاب "الاخلاق في الفكر العراقي القديم" للدكتور حسن فاضل جواد. ورغم ان النص كتب على الأرجح في عهد الملك سنحاريب (704-681 ق.م) فإن المعاني التي وردت فيه تجعلنا نتخذ منه مثالا لصورة الحاكم العادل المطلوب في الفكر العراقي من جهة، ودروس عبرة ايضا عن نهج الحاكم الاهوج الذي يمكن ان يزج شعبه في متاهات هو وشعبه في غنى عنها لو سار على الطريق القويم واتبع حكمة الالهة.
التصدعات المتخبطة والمتهورة لعدد من وزراء حكومة اياد علاوي ابتداء من وزير خارجيته مرورا بوزير داخليته وصولا الى وزير دفاعه (المنصبون جميعا بارادة قوة عساكر الاحتلال) حول حجم ومدى مسؤولية دول الجوار عما يجري في العراق من دورة عنف دموية قاسية ما هي في الواقع الا اصرار اعمى على احياء ثقافة الحاكم التعيس المنبوذ في الاخلاق العراقية القديمة والحديثة منذ عهد الملك سنحاريب حتى يومنا الحاضر.
وهي امتداد بقوة الدفع التي لا تزال تعمل عند البعض اما بفعل "الثقافة الصدامية" التي ينتمون اليها عن وعي او عن جهل او بفعل "ثقافة الكاوبوي" التي صدرتها قوات الاحتلال الامريكية الى أرض الرافدين الطاهرة منذ ما يزيد على العام بفعل المحنة التي نرجو ان تزول عن العراق بسرعة ان شاء الله.
وهنا يحضرني بقوة مثل ايراني شهير يصلح لايراده في حالة المفارقة الحاصلة من خلال استبدال الثقافة الصدامية التي يفترض ان تكون اندثرت! بثقافة الكاوبوي الامريكية التي يبدو انها انتشرت في اروقة الحكم العراقي الجديد.
والمثل يقول: "كل ما هو معرض للفساد والعفن يتم تطهيره بالملح، لكن الله الله، اذا ما تعرض الملح نفسه للفساد" والحقيقة المرة التي يعيشها العالم وعلى الهواء مباشرة منذ مارس عام 3002 حتى الآن هي استخدام الملح الفاسد في عملية تطهير العراق ممن كان يعاني منه من فساد متمثل في ديكتاتورية وطغيان صدام حسين، وانتشار ثقافته الرعناء في التعامل مع المعارضة وافراد الشعب لديه ومع جيرانه ومع العالم.
وهو ما يتكرر بشكل "أكثر مأساوية" في ظل احتلال بغيض وصنيعة بغيضة يمكن اعتبارها اليوم بحق الوجه الآخر للثقافة الصدامية التي كنا نتأمل ان تنتهي وتزول بغير الطريق التي استخدم فيها الملح الفاسد. حتى لا تتكرر مآس وحروب جديدة حمقاء وعبثية لا سمح الله.
لست هنا في مقام الدفاع عما يحصل من رد فعل "طبيعي" على همجية الغزو والعدوان والاحتلال سواء ظهر بشكل مقاومة مسلحة مشروعة ضد قوات الاحتلال وهو ما تعترف وتقربه كل الشرائع السماوية والارضية الا الذين في قلوبهم مرض، او ما ظهر منها بشكل اعمال عنف عبثية ضد المواطنين والابرياء من الناس العاديين، ولكن ما اريد قوله والتأكيد عليه هنا هو ان كلا الحالين والفصلين هو من فعل الاحتلال وهمجيته وممارسته المدمرة للنفس والروح فضلا عن الدولة والوطن وكل مقدرات شعب عريق مثل العراق العظيم بحجة ازالة طاغية "وتحرير" شعب.
وفيما الخديعة الكبرى والفضيحة المهزلة باتت مدونة في كتب فضلا عن مقالات يومية يكتبها امريكيون وغربيون عديدون منصفون عن حقيقة غزو العراق لا يزال البعض من منتفعي الاحتلال والمستوزرين عنده يصرون على استغباء واستحقار الذات والاخرين من جيرانهم.
وحتى تكتمل دائرة الاستغباء والاستحقار تراهم وقد اخذتهم العزة بالاثم وهم يوزعون التهم والشتائم والسباب والتحذيرات الى جيرانهم معتبرين كل ما يعاني العراق منه انما يأتي بسبب التسلل عبر الحدود او خوض الحروب بالوكالة بين عواصم الجوار وعاصمة دولة الاحتلال الكبرى.
وايا يكن حجم الحقيقة المتوفرة في مثل هذه المقولات والادعاءات فإن السمك لا يعيش الا في الماء الذي يوفر له حياته الطبيعية اما التحجج بأسطورة الزرقاوي مرة وخطر ايران مرة اخرى وخطر القاعدة مرة ثالثة فما هو الا نوع من الهروب الى الامام وتكرار لأخطاء حكام فاشلين ينبغي ان يصبحوا عبرة لمن يريد ان يعتبر، وليس مثلا اعلى إلا في الاستحمار والاستغباء للذات وللاخرين. فلا شاه ايران استطاع ان يتخلص من جبهة الثورة الشعبية التي كانت تحيط به من كل جانب حيث انتبه لها في آخر لحظة من حكمه بعد فوات الاوان - من خلال اتهامها بالعمالة للاجنبي او وصفها بصيغة الاخرين، ولا صدام حسين نجا من حكم ملك المصائر الالهي "ايا" رغم كل محاولاته في تشويه المعارضين والرافضين لحكمه ونهجه الارعن، ولا انتم في حكومة علاوي العتيدة بقادرين على تجاوز حقيقة كون المشكلة الاساسية والكبرى هي عراقية وثم عراقية ووطنية واصيلة تنبع من عمق العراق الضارب بجذوره في عمق الحضارة الانسانية الذي يرفض الذل والخنوع وان امهل البعض وقتا فاإنه لن يهمل كما فعل مع من هم من قبلكم.
نعم يا معالي الوزير المفدى او المدلل في العهدين فالعراق وكما تقول "عراق عريق يحيط به سياج منيع" واضيف لك بيتاً من الشعر، فإن هذا السياج المنيع لا يتكون من الدول العربية لوحدها بل ومجموع الدول الاسلامية بل وامم وشعوب الارض كافة، وكل افراد العالم ان شاء الله بمن فيهم المنصفون من الامريكيين الرافضين للخديعة الكبرى. ولسوف يتمكن عما قريب من كسر قيود الاحتلال والعدوان والظلم المضاعف الذي يرتكب بحقه بفضل وعي ابنائه البررة وعقلهم وحكمتهم ومقاومتهم الباسلة بكافة اشكالها واما جدار الفتنة والتعصب الاعمى سواء كان طائفياً او عرقياً او قومياً او سياسياً - ثقافياً فستظل شعوب المنطقة تهدم فيه ما تمكنت سواعدها ان شاء الله الى ان تزيله تماما او تفتح فيه فتحة للنور.
واما بخصوص الادعاء بأن الجيران اخترقوا كل شيء حتى وزارتك فإنني احيلك الى بيت معبر للشاعر الايراني الكبير سعدي الشيرازي يقول فيه:
اذا ما عكست المرآة قبح وجهك
أصلح وجهك لا تكسر المرآة
والحر تكفيه الاشارة