يبدو ان هناك تراجعا ملحوظا في الموقف الأمريكي إزاء التدخل الدولي العسكري في السودان في مواجهة المأساة الإنسانية في دارفور بعد ان لمست الولايات المتحدة رفضاً من سبع دول في مجلس الأمن للموافقة على مشروع قرارها الذي ينص على إنزال عقوبات بحق السودان. وقد برر المندوب الأمريكي تخفيف مفردات المشروع المقدم الى المجلس بأن الولايات المتحدة هدفها حياة الناس في دارفور، وليس انزال عقوبات على حكومة السودان، وكان قد نسب الى وزير الخارجية كولن باول إبان زيارته للقاهرة قوله: “ان واشنطن تدرس خيارات عدة أخرى بعيدا عن الحل العسكري”. وقال صحافيون أمريكيون ان باول ابلغهم على متن الطائرة التي حملته الى القاهرة “صعوبة اللجوء الى استخدام القوة العسكرية” وأضافوا ان واشنطن تخشى من التورط مجددا في صراع مع العالم العربي في دارفور بعد العراق، كما تخشى على مصالحها ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي، ومهما يكن من أمر، فإن تراجع الولايات المتحدة لا يقلل من نجاحها في عزل الاتحاد الإفريقي بنقل القضية لمجلس الأمن.

أما بالنسبة لبريطانيا التي كان قد أعلن قائد جيشها انه بوسعه ارسال خمسة آلاف جندي بريطاني الى دارفور في اعقاب تلويح توني بلير باستعداد بلاده للتدخل العسكري، فقد خفف من غلواء هذا التهديد والوعيد مبعوث السلام البريطاني للسلام في السودان في تصريحات نشرتها وسائل الاعلام العربية (الخميس 29/7)، وانتقد فيها سلبية الموقفين العربي والإسلامي من السودان، وقال: “ان لندن لا تعتبر ما يجري في دارفور إبادة جماعية، بل حربا أهلية” وأكد ان الفرصة لا تزال متاحة لمعالجة نزاع دارفور بالسبل الدبلوماسية وانه من السابق لأوانه الحديث في هذه المرحلة عن استعمال القوة لوقف النزاع، وشدد على ان استعمال القوة هو آخر الخيارات التي يتمنى ألا تتبع.

وكان لافتاً انتقاده الصريح للعالمين العربي والاسلامي عندما قال: “عليهما القيام بكل ما يستطيعان لوقف النزاع ومساعدة المحتاجين”. واضاف: بدلا من توجيه الاتهام الى بريطانيا وغيرها بعدم السعي الى معالجة ازمة انسانية حادة الافضل ان يسعى هؤلاء الى بذل جهودهم لاحلال الأمن واغاثة المتضررين.

وإذا كانت الولايات المتحدة أبدت هذا التراجع الملحوظ ولو مؤقتا، وبريطانيا على لسان مبعوثها للسلام في السودان ألن جولتي لا تعتبر ان ما يجري في دارفور إبادة جماعية بل حربا أهلية فإن بعض قيادات المقاتلين في دارفور تواصل الاصرار على ان ما يجري هناك هو ابادة جماعية وتطهير عرقي وتزيد على ذلك بتوسيع دائرة الاتهامات حتى يكون التدخل العسكري الذي تدعو له مدخلاً ليصبح جزءاً من الحرب الدولية على الارهاب!

ولعل أقوى دليل على صحة ما نقول التصريحات التي أدلى بها الدكتور شريف حرير أحد قادة “حركة التحرير” يوم 29/7 وفيها يقول “ان الجنجويد تربطهم علاقة بتنظيم القاعدة، وهناك مجموعات موريتانية وجزائرية داخلهم” معتبرا ان التدخل الدولي سيكون جزءا من الحرب الدولية على الارهاب. وهكذا فإنه لا يكتفي بإرسال التهمة لإدخال القاعدة في الموضوع وانما يزيد على ذلك بإظهار ما يراد من الزج بالقاعدة وهو ان يكون التدخل العسكري في السودان جزءا من الحرب الدولية على الارهاب كما حدث في افغانستان!

ولكن من سوء حظه أو من حسن حظ الحقيقة انه في العدد ذاته من الصحيفة التي تحدث اليها وضمن سياق تصريحاته قال احمد حسين الناطق الرسمي باسم “حركة العدل والمساواة” وهي الحركة الثانية في دارفور “ان ميليشيا الجنجويد لا علاقة لها بالقبائل العربية في دارفور وانها قوات شكلتها الحكومة من عدد من العناصر القبلية، ولكنها لا تمثل القبائل التي تنتمي اليها، وان قبائل دارفور العربية الكبيرة مثل الزريقات والهبانية والبني هلبة والتعايشة رفضت الانضمام لتلك الميليشيات وضربت المثل في الوطنية وفي مقتضيات التعايش السلمي في دارفور، وان مواقف القبائل العربية في دارفور كانت دائما مشرفة.

ولعل ما يدعو للأسف والأسى ان مثل تصريحات الناطق باسم حركة العدل والمساواة لا تأبه لها أجهزة الاعلام العالمية لانها تريد ان تسمع العالم كل ما هو ضد العرب والاسلام، ولذلك تنشر كل ما يضرب على اوتار التطهير العرقي وحرب الابادة، ولعلها تتهيأ لتضخيم ما صرح به الدكتور شريف من ان “القاعدة” تحارب مع الجنجويد، زاعما ان عناصرها تسللت عبر الحدود الغربية طورا، وطورا آخر ملمحاً الى ان الحكومة كانت تؤوي عناصرها، والهدف في البداية والنهاية هو على حد تعبيره جعل التدخل العسكري في السودان جزءاً من الحرب الدولية على الارهاب!

ولا شك ان السؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح هو: هل سيشتري المجتمع الدولي طعم ان القاعدة هناك وتشارك في حرب الابادة والتطهير العرقي ويحتشد وراء الولايات المتحدة لدك السودان كما دكت من قبل افغانستان؟ أم سيتخذ من ذلك الطعم فرصة أخرى لاتهام النظام بالتحالف مع القاعدة، كما اتهم بوش صدام؟ الارجح ان هذه التهمة سيستفاد منها في المخطط الجهنمي الهادف الى بث الكراهية وسط الافارقة للعرب وللإسلام وفي البدء تفكيك وحدة السودان أو خلق تحالف يجمع كل المتحدرين من أصول افريقية ضد المتحدرين من أصول عربية وتغيير تركيبة السودان!

بكل تأكيد ليس المهم هو عدم تصديق تلك الفرية أو حتى عدم التعامل معها وانما المهم هو ان يراجع العالم كل ما اثير من اتهامات حول التطهير العرقي والابادة الجماعية في ضوء هذه المصيدة الجديدة حول “القاعدة” بزعم انها تشارك في القتال مع الحكومة والجنجويد، لأن التوقف عند هذا الاتهام والمراجعة يمكن ان يقودا الى تبيان الحقيقة التي هي أقرب الى ما قاله المبعوث البريطاني من ان بريطانيا لا تعتبر ما يجري في دارفور إبادة جماعية بل حربا أهلية على حد قوله.

ومع ذلك فإن ما قاله الناطق باسم حركة العدالة من اشادة بالقبائل العربية في دارفور وتبرئتها لا يسمع له أي صدى عبر أجهزة الاعلام الدولية لأنه ينسف فرقعة الاثارة من اساسها، ويضعف من المخطط الجهنمي المراد نشره ولذلك للأسف نجد امثال هذا الناطق يتحولون في كثير من الاحايين الى العزف على اوتار التطهير العرقي والابادة الجماعية من العرب للافارقة حتى تجد احاديثهم حيزا في أجهزة الاعلام العالمية.

ومما يضاعف الاسف ان الحكومة لا تتحرك للمستوى المطلوب من المسؤولية لاحتواء الأزمة خاصة بالاتجاه نحو كل القوى السياسية لمعالجة ازمة الحكم في السودان وما لم تفعل فهي بلا شك ستعرض البلاد الى المزيد من الابتزاز والدمار.