السودان والعراق بين أكثر الدول العربية تعدداً، إن لم يكونا الأكثر. والتعدد، كما بات يردد حتى خصومه، مصدر غنى وقوة للمجتمعات، يساعدها على التحول مجتمعات زاهرة وواعدة. وحدهم الأصوليون الأكثر تطرفاً هم الذين يقولون العكس جهاراً، محوّلين شعار «طرد الأجانب والكفار من أرض المسلمين» سبباً لوجودهم السياسي.

وفي يوم واحد جاءنا من العراق والسودان خبران عن أحوال التعدد: الجريمة ضد الكنائس والمصلين المسيحيين في بغداد والموصل، وقرار مجلس الأمن بشأن الجريمة الأكبر بكثير، والأكثر تمادياً بما لا يقاس، ضد الدارفوريين السودانيين. والجريمتان أقدمت وتقدم عليهما أطراف هي، في صورة أو أخرى، أصولية. هذه هي حال المقاومة «المجيدة» في العراق، وهي حال النظام السوداني الداعم لميليشيات الحنجاويد. وقد يقال ان مسيحيي العراق ليسوا بـ«الأجانب»، فيما دارفوريو السودان المسلمون ليسوا بـ«الكفار»، إلا أن هذا يبقى أقرب الى المعلومات التقنية: ذاك ان آلة العنف الأهلي المعزز ببضعة مقدمات ايديولوجية، كفيلة بتوسيع دائرة الأعداء الى ما شاء الله. ففي العراق يتساوى الشيعة والأكراد والمسيحيون، ناهيك عن اليهود الذين لم يبق أحد منهم هناك، في كونهم أعداء، تماماً كما يتساوى الدارفوريون والجنوبيون، بأكثريتهم الأرواحية وأقليتهم المسيحية، في الصفة نفسها. وهؤلاء جميعاً يتساوون مع الأجانب، لا الأميركيين والأوروبيين منهم فحسب، بل أيضاً الأتراك والآسيويين والعرب.

بيد أن الموضوع الأخطر ليس هنا. فالمقاومة العراقية هذه هي اياها التي ارتفعت الحناجر وحُبّرت المقالات دفاعاً عنها لأنها تقاوم الاحتلال. اما النظام السوداني الذي اعتبر قرار مجلس الأمن اعلان حرب، وأعلن استعداده لخوضها، فلسوف يجد، إذا ما فعل، كل الدعم من أصحاب تلك الحناجر والمقالات لأنه... يتصدى للاحتلال.

ما من شك في أن وجود النفط في السودان سيكون عاملاً بالغ التأثير في تقرير التدخل، تماماً كما ان عدداً من الاعتبارات الاستراتيجية الأميركية هو ما أملى الحرب على العراق. إلا أن انتهاك الأوطان من خارجها هو ما لا يحصل إلا بعد تلك الانتهاكات الفظيعة من داخلها. والمشكلة التي تتعدى الأصوليين، مقاوماتٍ وأنظمةً، تكمن في المزاج الذي يساندهم «ضد الاحتلال» بغض النظر عن كل شيء. وهذا المزاج لم يتأسس، ولم يتصلّب، إلا لأن نظرة عوجاء للوطنية هي التي تسود الفكر السياسي العربي منذ عقود. وهي نظرة مهّد لها القوميون واليساريون قبل أن يتولى زمامها الأصوليون: ذاك ان «الوطنية»، في هذا العرف، هي «مقاومة» الاحتلال (أو الاستعمار، أو الامبريالية، أو الصهيونية، أو العولمة، أو بصيغة أكثر انحطاطاً، الغريب). وهذا يحصل في أوطان لم تتشكل بعد وطنيتها، بحيث ينبغي أن تعني «الوطنية» بناء الأوطان. هكذا لا يعود مفاجئاً أن تؤول المقاومة، انطلاقاً من واقع التفتت، ومن الافتقار الى التقليد السياسي والاصلاح الديني والتعليمي...، الى ذبح كل من يمكن ذبحه، أكان مسيحياً عراقياً أم دارفورياً سودانياً.

ان الذين ساهموا باطلاق الجن من القمقم، حين ظنوا أن مقاومة الغرب هي وحدها الطريق الى الغربية، مدعوون الى المراجعة والتروّي. عساهم لا يؤيدون عمر البشير كما أيدوا أبو مصعب الزرقاوي.