هناك مشهد صغير في روايتي الأخيرة (تحت شمس الضحى) كان حاضراً فيَّ كما لم يحضر أي مشهد منذ زمن طويل، ولعل مناسبة هذا الحضور اللافت، والذي يفتح شهية الدموع والقهقهات في آن، هو ما يدور الآن من مناقشات حول معرض فرانكفورت للكتاب والمشاركة العربية المنتظرة فيه.
وسأدع المشهد لنهاية هذه المقالة، لأبدأ من مناسبة المعرض.
* * *
في زمن بات فيه المرء يعتقد أنه لم يعد لنا أي معركة مصيرية، إلا أن ظنه كان في غير محله، إذ فجأة أصبح لدينا معركة مصيرية، وهذا يدل على وجود عبقرية عربية فذّة تثبت أننا قادرون على اختراع المعارك المصيرية، من تحت الأرض، حتى لو لم توجد؛ لكن الحقيقة المبكية هنا، أننا لم نستحضر يوماً أي معركة مصيرية لننتصر فيها بل لننهزم، كما لو أن بنا شوقاً أبدياً للهزيمة.
وهكذا، وكما قال الراحل الكبير نزار قباني "لو لم نجده عليها لاخترعناه"، انطلق العالم العربي لحشد فتات طاقاته ومقدراته لخوض غمار الحرب الجديدة، التي تبدو، ومثل المعارك المصيرية كلها، معركة حاسمة ستحدد نتيجتها في النهاية أن نكون أو لا نكون.
بالطبع ليس الأمر سخرية من تظاهرة كبرى كهذه، بل بكاء على طريقة التعامل معها، وطريقة التفكير بها، وذلك ينطبق على حرارة الشعوب (الكتّاب) في التعامل معها، حيث بات الكثيرون يعتقدون أنها عتبة قد تصلهم الى بوابة نوبل، كما ينطبق على فتور معظم الحكومات العربية التي تمضي، كما تمضي دائماً نحو كل معركة مصيرية بفتورها الأنيق المعتاد الذي لا تنقصه بعض حماسة اللغة المعتادة أيضاً.
هكذا تُقابل كتّاباً يظنون أنهم وجّهوا الضربة القاضية لعشرات، بل مئات من زملائهم الذين لم يستطيعوا الظفر بشرف المشاركة، وتقابل كتّاباً، وهذا أغربهم، يعلن أنه بات اليوم مقتنعاً بضرورة إصلاح الشرق الأوسط، لأن الفساد العربي الرسمي حرمه من المشاركة، وليس ثمة هنا خطة إصلاح سوى التي طرحتها أميركا، وبذلك تحول عدم وجود اسمه في قائمة بلاده دليلاً دامغاً على ضرورة التغيير في بلاده، أو حتى تغيير البلاد نفسها.
لكن هذا الخراب (وقد بدأنا بالجد الآن)!! لم يبدأ هنا، بل بدأ منذ زمن بعيد، لأنه آن لنا أن نعترف أن الثقافة العربية تتآكل وتضمحل، وتتقزَّم وتنعزل، ويتقلص حضورها الفاعل في الحياة اليومية للمواطن العربي، وأخشى ما أخشاه أن كثيرين يعتقدون أن بوابة فرانكفورت، هي واحدة من بوابات الزمن التي لا تنفك أفلام التسلية تلعب على طرافتها، حيث يجد البطل أو الأبطال أنفسهم في أزمنة أخرى سعيدة، تحقق أحلاماً مجهضة، ومستقبلاً لم يبلغوه.
وهذا ما يظنه بعض الكتاب العرب الذين يعتقدون أن بوابة فرانكفورت هي عتبة الزمن البديل لفقدان الوزن والقيمة والتأثير والحضور والإقبال على كتبهم في العالم العربي.
وهذا وهم كبير، لا وهم بعده.
إذ يكفي أن تشاهد رفوف المكتبات في أي عاصمة غربية، أو أي مدينة متوسطة أو صغيرة هناك لتدرك أن عدد الكتب التي تطبع سنوياً يفوق الخيال، وأن ثمة عناوين لم يفكر بها أي مثقف عربي على الرغم من أهميتها، وأنها تشد القارئ وتجبره على شراء الكتاب سواء كان من أبناء اللغة التي أنتجت هذا الكتاب أو من أي لغة أخرى.
نجد هناك على الرفوف مؤلفات من الهند والصين وافريقيا وأميركا اللاتينية وأندونيسيا والفلبين واليابان وأستراليا (وإسرائيل) أيضاً، لكنك لن تجد كتاباً عربياً واحداً مترجماً ومعروضاً بطريقة تُظهر أنه الكتاب الذي لا بد منه للعالم.
ولنا أن نتصور أن ألمانيا وحدها التي نستعد لعبور بوابتها السحرية!! قد أصدرت عام 1998 فقط ثمانين ألف كتاب (طبعة أولى) وأن عدد دور النشر فيها هو ثلاثة آلاف، وإن حجم مبيعات الكتب في العام المذكور بلغت ثمانية عشر مليار مارك ألماني، وأن هناك خمسة آلاف محل لبيع الكتب.
ولعل القارئ المتابع بإمكانه أن يسترجع عدد محلات بيع الكتب التي يمكن أن يقصدها في مدينة مثل القاهرة، ليكتشف أن ليس لديه سوى ثلاثة أو أربعة مراكز حقيقية على رأسها الحاج مدبولي، وعليه أن يدور في عمّان بحثاً عن كتاب محترم ليجد أن ليس هناك أكثر من ثلاثة أو أربعة مكتبات وأكشاك معنية بالأمر على رأسها كشك (أبو علي).
ويمكن أن يتلفّت القارئ حوله بحثاً عن مكتبات في المنامة، دمشق، الجزائر، تونس، الرياض، ليكتشف أن الكتب لدينا تعيش في محميات صغيرة لا أكثر، أما إذا ابتعد عن مركز العاصمة نصف كيلومتر فسيكتشف أن لا وجود للكتب ولا للمكتبات.
ونعود الى بوابة فرانكفورت السحرية، لنسأل أنفسنا، وما الذي سنقدمه هناك فعلاً على مستوى الفكر، الفلسفة، علم الاجتماع، السياسة، علم النفس، المستقبليات، العلوم بفروعها؟
في ظني أن الأمر سيكون أكثر من محزن، لا لأن المساهمة العربية متواضعة في هذه المجالات فقط، بل لأن الأشواط التي قطعها العالم في هذه المجالات ضوئية، وهذا بالطبع ليس ذنب منتجي ومبدعي هذه الحقول العرب، بل ذنب ومسؤولية الجانب الرسمي العربي أيضاً.
منذ مدة كنت أتحدث مع أستاذ عربي في إحدى الجامعات البريطانية يعمل في أحد المجالات العلمية، وهو لم يتجاوز بعد الثانية والأربعين من عمره، حيث أخبرني أن ميزانيته السنوية التي يستطيع التصرف بها للإنفاق على أبحاثه وأبحاث طلابه هي مليونا جنيه استرلينيني.
طبعاً، ليس ثمة مبرر للقول، ولكننا سنقول! إن هذه الميزانية تفوق ميزانيات كثير من وزارات الثقافة في العالم العربي، ومساهمات كثير جداً من البلدان التي ستشارك في المعركة المصيرية الجديدة التي باتت على الأبواب.
ولذا أخشى أن نبكي كثيراً على حدود الرابع من تشرين أول (موعد فرانكفورت) ونتمنى العودة إليها!! كما يتمنى كثيرون العودة الى حدود الرابع من حزيران!!!
وإذا ما انتقلنا للآداب، فإن الأمر قد يدعو للتفاؤل الى حد ما، ولكنه تفاؤل مشوب بكثير من الحذر، لأن ما ينتج في مجال الرواية في العالم اليوم كبير ومتنوع على صعيد الموضوعات والفن والمذاقات الجديدة، في وقت يحبو فيه كتاب عرب لبلوغ العالمية على حساب نكهات خصوصياتهم، بل لا يتورع البعض منهم عن نفي ذاته حالماً بأن هذا النفي هو الطريق الى العالمية، وليس ثمة مبرر للقول هنا، ولكنني سأقول!! إن التجربة أثبتت أن العالم يحترم من يدافعون عن مبادئهم، وأخلاقياتهم وقناعاتهم في أي أمر، وهناك تجارب يمكن الحديث عنها في غير مدينة أوروبية، ولعل واحدة من أهمها تلك التي عايشتها وعايشها معي الروائي الكبير جمال الغيطاني في مهرجان فوندامنتا العالمي الذي عقد في فينيسيا في أكتوبر الماضي، ويمكن قول الكثير في هذا.
ونعود للآداب! فإذا كان العالم العربي لا يصدر في العام الواحد أكثر من خمس روايات مهمة وأقل من ذلك في الشعر والقصة القصيرة، حسب رأي أحد النقاد المرموقين فإن موسم النشر الفرنسي الماضي شهد ميلاد ستمئة وخمسين رواية جديدة!! وسننسى الآن مواسم ألمانيا وبريطانيا واللغة الاسبانية والإيطالية.. إلخ.
وفي زمن تخرج فيه الصحف العربية لتقول إن هذا الكتاب، هذه الرواية، كانا الأكثر مبيعاً، نكتشف أن عدد النسخ قد لا يتجاوز في بعض الحالات نسختين فقط خلال أسبوع، في وقت تسجل فيه بعض الروايات والكتب الغربية أرقام مبيعات تصل الى ثلاثين ألف نسخة في أسبوع وفي بلد واحد، وهذا يفوق ما يطبعه أي كاتب عربي في خمس طبعات من كتابه إذا كان نجماً ساطعاً، خلال عشر أو خمس عشر سنة.
اليأس
ليس الأمر هنا مناسبة لليأس، بل مناسبة للتفكير: أين نحن؟..
وليس هذا محاولة للتقليل مما نكتبه، لأن هناك مستويات عالية في مختلف فروع الإبداع، ويمكنها أن تصل وتُحدث فرقاً، إذا ما خرجت من إطار النشر الضيق الى دور نشر واسعة كبيرة، من دون أن ننسى، أنه وحتى هذه اللحظة لم يزل النشر الأجنبي، باستثناءات قليلة، يحذر الاقتراب من الروايات العربية التي تتناول الجوهر العميق للقضية الفلسطينية، ثم الروايات ذات الصفحات الكثيرة، إذ لم يزل النشر هناك يدور في نطاق المغامرة المحسوبة جداً، وليس ثمة مبرر للقول ولكن سأقول! إن الكتاب العربي يقف وحيداً في هذا المجال، حيث لا تدعم وصوله الى لغات العالم لا الجهات الرسمية (وهذا بات طبيعياً) ولا رأس المال الوطني، الذي يبدو أنه يستغل الوطن من أجل المال أكثر ما يستغل المال من أجل الوطن.
لكن دعونا نتواضع فنقول: إن فرانكفورت مناسبة كبيرة وتظاهرة مهمة، قد يكون لها نتائج جيدة على صعيد بعض الكتابات العربية الراقية، وقد تكون أيضاً مناسبة أخرى لضياع هذه الكتابات الراقية في بحر من المشاركات التي قد تكون مجانية، وإذا ما نظرنا الى تاريخ هذا المعرض فسنكتشف أنه كان مناسبة مهمة لفتح الباب لإبداعات عدد من شعوب العالم، ولكن قلة من هذه الإبداعات استطاعت أن تحقق حضورها العالمي مثل آداب أميركا اللاتينية التي كرست لها نشاطات المعرض عام 1976.
ولذا علينا أن نكف عن التعامل مع معرض فرانكفورت باعتباره العصا السحرية التي غدت بين أيدينا فجأة، لأن مثل هذا تعامل فيه الكثير من السذاجة، إذ لا يعقل أن يكون مصيرنا كله على المستوى الثقافي، العام والخاص، معلقاً بهذه التظاهرة أياً كان حجمها، لأن التاريخ لا يمكن أن يبدأ من تشرين أول المقبل.
فالتاريخ الحقيقي هو خلفنا الآن، وإذا كان لا بد من قول شيء هنا، فهو أن الثقافة العربية خلال السنوات الثلاثين الماضية لم تكن ضحية الجانب الرسمي، فقط، الذي طحنها حيناً وهمشها حيناً، بل كانت أيضاً ضحية المثقفين العرب أنفسهم الذين عمل كثيرون منهم على تهميش وطحن سواهم، بحيث يمكننا القول إنه لم يعد ثمة أي وجود لأي مشروع ثقافي عربي اليوم لا على المستوى الثقافي ولا على مستوى أسئلة الحياة والواقع والمصير التي تعصف بهذه الأمة من صحرائها الى صحرائها.
هل سنحقق شيئاً كبيراً في فرانكفورت؟ لا أظن ذلك.
معزولة
لا لشيء إلا لأن على الثقافة العربية أن تحقق قبل كل شيء إنجازها هنا، على هذه الأرض، لأنها اليوم معزولة عن بشرها ومعزولة عن نفسها وغارقة في أضيق مصالح أفرادها. ثم أن هناك قضية كبيرة، أخشى أن تفسد الأمر كله، وهي أننا نذهب الى فرانكفورت كما لو أننا متهمون، نريد أن نثبت براءتنا من كل التهم التي ألصقت بنا، وفي ظني أن علينا أن نكف تماماً عن هذا، لأننا لسنا كذلك، ولأن لدينا قضايا عادلة واضحة تناصرها شعوب العالم اليوم، أكثر مما نناصر نحن هذه القضايا.
أما على جبهة المثقفين المُخترقة، فأظن أن ما يلزمنا روحاً جديدة، نتعامل بها مع زملائنا وكتاباتهم التي لا بد أن تكون جزءاً من مشاريعنا، كي يعتبرها العالم جزءاً منه، وأن نؤمن أن كل كتاب عربي جيد يشق الطريق الى أي لغة هو البوابة الحقيقية لأعمالنا جميعاً (والحقيقة أن هذه الفقرة هي الأكثر طوباوية في المقال كله).
ولكي أضاعف طوباويتها، لا بأس أن أعيد ما قالته ذات يوم المستشرقة السويدية مارينا استاغ، وقد استشهدت بقولها هذا أكثر من مرة. تقول (لنكن صريحين، في العالم العربي يحتقر المثقفون بعضهم بعضاً، يقللون من شأن زملائهم.. ينمّون.. في جو من هذا النوع يستحيل تجميع القوى، وبالتالي إثبات مصداقية عالمية للثقافة العربية).
ولنعد الآن الى ذلك المشهد في رواية "تحت شمس الضحى" ما دمنا نتحدث تحت شمس هذه الظهيرة الحارقة:
كانت المرة الأولى التي يراه فيها بعيداً عن تلك العتبة.
ما لك؟
وكما لو أن السؤال فتَّحَ ما تبقى من منابع الدمع، ارتجَّ جسده الصغير غير قادر على لملمة حروف الكلام من بين شهقاته.
قال له: إهدأ.
كيف أهدأ. بعد أن ضاع مستقبلي؟!
كيف ضاع مستقبلك!!
امتدت يده إليه بالشهادة المدرسية، وقبل أن تصل ليد ياسين، كان يقول له: سقطتُ في الحساب. شوف. (ضعيف). ضاع مستقبلي!
يا زلمة، خفِّفها، لم يضع مستقبل أي إنسان لأن تقديره (ضعيف) في الأول الإبتدائي.
وبصعوبة حاول ياسين أن يعيده لبيته.
أروِّح للدار، أي دار، بعد أن ضاع مستقبلي؟
لكنه سار الى جانبه حتى أوصله تلك العتبة.
* * *
وبعد..
عتبة فرانكفورت ليست فرصة للعثور على المستقبل، كما أنها ليست بالتأكيد فرصة إضاعة المستقبل أيضاً. لأن كل ما في الأمر أننا نذهب إليه كما كنا، كما صرنا.. وكما نحن الآن تماماً.