المقاومة العراقية التي يتداول الإعلام العربي أخبارها ، تحتاج أن نعيد النظر في وصفها كذلك،أقصد تعبير أو مفهوم (مقاومة) ان كان أحد يريد أن يكون موضوعيا ويسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، إن ما يحدث في العراق لا يخرج عن عمليات ابتزاز أقرب إلى الجريمة المنظمة لا أكثر من ذلك، واسمعوا الكثير من العبارات الصادرة عن بعضهم، فقد أعلنت الجماعة التي اختطفت الدبلوماسي المصري، وروعت أسرته وأثارت الكثير من الناس، بعد أن اعترضت طريقه وهو ذاهب إلى المسجد إنه ( رجل مؤمن وصالح) ولم تكتشف تلك الجماعة ذلك عندما تم اختطافه أول مرة من أمام باب المسجد!
المقاومة العراقية ليس لها وجه، فقط هم أناس ملثمون يظهرون لنا بين الفينة والأخرى على شاشات التليفزيون ، رافعين الشعار الذي استهلكه الجميع وهو الحديث باسم الإسلام وكأنه بضاعة للبيع يغرى بها السذج، فهذه الجماعة هي جند الإسلام، وهي الجيش الشعبي المسلم، إلى آخر التسميات التي يراد بها تضليل البسطاء من الناس من جهة، والإساءة إلى ديننا من جهة أخرى كما لم يساء له من قبل، فالإسلام لم يدع لذبح الناس من الوريد إلى الوريد.
والسؤال ما هي الوعود التي تقدمها المقاومة العراقية ذات الوجه غير المعروف، ما هي وعودها للأكراد الذين ذاقوا العذاب في قراهم ومنازلهم من النظام السابق، وماذا تقدم هذه المقاومة للشيعة في العراق بعد أن قام النظام السابق بقتل زعمائهم فرادى وقتل البقية بشكل جماعي، وماذا تقدم هذه المقاومة للسنة بعد أن حرموا حتى من حق المواطنة،وماذا تقدم هذه المقاومة للمرأة العراقية بعد أن سمحت لنفسها بقتل النساء العاملات على إعاشة أسرهن!..وماذا تقدم للشباب بل ماذا تقدم للعراق؟
سكوت ريتر رئيس المفتشين الأسبق عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وهو معارض معروف للتدخل الأميركي العسكري، كتب دراسة نشرت أخيرا، تحدث فيها عن خبرته السابقة، فأوضح أن النظام العراقي السابق قد حضر تدريب أجهزة تابعة للعمليات الخاصة التابع لجهاز الاستخبارات وعملها الرئيسي هو صناعة وتركيب أجهزة متفجرة ومرتجلة، وقد شهد ذلك بنفسه, كما قال وأصيب بالذهول، عندما دخل حجرة في حجم صالة ألعاب رياضية، مرسوم على جدرانها تفاصيل الحي السكني و بيوته وسكانه،ومثل ذاك موجود في كل الأحياء كما قال، وقد شهد ذلك في الأيام الأولى من التفتيش قبل سنوات.
حقيقة الأمر أن المقاومة التي تسمى خطأ بهذا الاسم في العراق اليوم هي مقاومة لها علاقة بالنظام السابق، وتريد تمويها أن تدعي غير ذلك، ومهمتها عدم تمكين العراق من الدخول في عصر جديد، ولأن الناس في العراق ما زالت ذاكرتهم طرية ومليئة بذكرى الأعمال البشعة التي كانت تمارس ضدهم من ذاك النظام، فما زالت الأسر العراقية تتذكر اعتداءات عدي على بناتهم، وما زالت تتذكر زبانية المخابرات وهي تتلصص حتى على أفكارهم، فإن المقاومة لا تريد أن تربط نفسها علنا بما مضى، رغم أن كل الدلائل تشير إلى ذلك.
فما هي الوعود التي يمكن أن تقدمها مثل تلك المقاومة وتقنع بها الناس؟.
المقاومة تختطف الرجال العاملين في الشركات التي تحاول أن تساهم في بناء العراق، وسائقي سيارات الشحن التي تنقل المؤن والأدوية للعراق من الخارج، وتقتل الأطباء والمهندسين والعلماء، وتقوم المقاومة بضرب المصالح الحيوية للعراقيين من تفجير أنابيب ومنشآت النفط، إلى نسف مواقع الكهرباء والماء، وقتل الناس في الشوارع في تجمعاتهم ، فقط لأنهم يريدون أن يساهموا في تشكيل حياة مستقبلية أفضل من الحياة السابقة التي عاشها العراقي، ولو سألنا أنفسنا عن كشف حساب هذه المقاومة المدعاة ،لوجدنا أن العدد الأكبر من ضحاياها هم من العراقيين العزل.
في المقابل هناك نجاحات كبيرة تحدث اليوم في العراق، رغم كل المحاولات لتعطيل تلك النجاحات، صديق يعرف عن قرب بعض الأشخاص الذين شاركوا في المباحثات التي تمت في احد البلدان العربية التي زارها رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي مؤخرا قال لي ان الطاقم الذي رافق رئيس الوزراء من المسؤولين العراقيين لم نر مثله منذ زمن طويل بين المسؤولين العراقيين ، لقد اختفي ذاك التشنج الذي يفاوض به رجال الدكتاتور في السابق، ليس إيمانا منهم بالقضايا التي يفاوضون عليها بقدر خوفهم وهلعهم من مصير غير معروف يطولهم وأبناءهم ان عادوا إلى بغداد بما لا يرضي الدكتاتور. لقد بدا الرجال الذين رافقوا رئيس الوزراء العراقي أنهم مطلعون على الملفات التي بين أيديهم، يناقشون بحرية وبعقلانية، ويعرفون ماذا يتوجب على العراق أن يكون في المستقبل، وما يستطيع أن يقدم لأمته، إنهم رجال يختلفون عن (رجال الرئيس) السابقين الذين كانوا في الغالب إمًعة وجهلة معا، ترتعد فواصلهم أين ومتى ذكر اسم الرئيس خوفا من بعضهم أن ينقل عنهم شيئا ربما يفسره الرئيس أو بعض محازبيه كونه نقدا ولو من بعيد، لأن ثمن ذلك هو القتل قبل السؤال.
نقل لي صديق عمل مع النظام السابق ثم تركه مبكرا، انه ذهب موفدا للتفاوض بطلب من الرئيس السابق، وتفوه من قابله بكلمات سلبية بشأن الرئيس، ولكنه لم ينقل ذلك إلى بغداد، بل نقل عكسه، فلما سألته ولماذا فعلت ذلك؟ قال لان الرئيس السابق لم يكن يتخلص قتلا ممن ذكره بسوء، بل يتخلص أيضا ممن سمع ذلك السوء! ولم أكن على استعداد أن أموت.
رجال العراق الجدد مختلفون، وهم بالتأكيد سيختلفون لأنهم ذاقوا كل تلك المرارة من نظام دكتاتوري، وعرفوا معرفة يقينية أن النظام الدكتاتوري لا يبني الأوطان حتى وان أخاف الرجال، هم مختلفون لأنهم ببساطة أحرار.
من هنا فإن المقاومة العراقية ومن يريد أن يروج لها ،هي مقاومة خاسرة منذ أن بدأت،طريقا وأهدافا، ليس لأنها تفتقد الأجندة التي يمكن أن يلتف حولها الشعب العراقي أو قطاعات واسعة منه فقط، وليس لان ما تريد تطبيقه ضمنا من شكل للحكم هو ما عرفه واشمئز منه الشعب العراقي لفترة طويلة من الزمن، ولكن فوق ذلك كله لأن القائمين عليها يعرفون أن المقاومة التي يقومون بها تسير مضادة ومعاكسة للمصالح المستقبلية للشعب العراقي، وهي معاكسة لمسيرة التاريخ أيضا.
ما يحدث في العراق على الجانب الآخر لافت للنظر، فالعملية التحضيرية للمؤتمر الوطني سارت بطريقة ديمقراطية ومنظمة ونقاش واسع مع معظم الطيف العراقي السياسي،ومن المقرر خلال أسبوعين أن تفرز مجلسا وطنيا لمراقبة الحكومة، واحتمال أن تجري انتخابات ديمقراطية وحرة لأول مرة في تاريخ العراق المعاصر قبل نهاية يناير القادم، هو احتمال اقرب إلى الحقيقة منه إلى التمني، ويكتب العراقيون وينقدون يسمعون رأيهم بحرية، يقبلون ويرفضون، يتفقون ويختلفون كما لم يفعلوا خلال نصف القرن الماضي دون سجون أو نفي أو تعذيب أو معتقلات أو ملاحقة في النفس أو العيش..
بعض النقد لما يحدث في العراق يبدو وجيها حينما تسمع به الأذن لأول مرة ، أو يلامس العقول، كالقول ان ما يشتكي منه العرب في أماكن أخرى ويريدون أن يتخلصوا منه ،مثل (الأحكام العرفية) تفرضه الحكومة العراقية الجديدة في بغداد، وينسي هؤلاء أن الفرق الزمني هائل، فبعض الأحكام العرفية في بلادنا أصبح لها ثلاثة وأربعة عقود ولم ترفع، ولا تبدو المقارنة هنا منصفة ، لأنه بعد انتخابات حرة وبرلمان ديمقراطي ستختفي الأحكام العرفية في العراق..
العراق يتعافى، وأي مراهنة ضد ذلك هي مراهنة خاسرة، قد تعطل المسيرة لفترة ولكن لا تستطيع أن توقفها، وترك العراق يخوض في الفوضى، تحت أي ذريعة هو مقدمة منطقية لزرع إرهاب آخر أعنف واشد في المنطقة.