جبار ياسين: يمكننا ادراج التجربة الأميركية اللاتينية ضمن المقارنات الجارية, منذ اكثر من عام, بين الوضع العراقي وأوضاع اصقاع اخرى كاليابان والمانيا على صعيد الاقتصاد كما جرى ذلك اكثر من مرة. التجربة الأميركية - اللاتينية تبدو احياناً اكثر قرباً من تجربتنا العراقية بحكم تماثل نسبي - وليس تطابقاً للسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والى حد ما التاريخية.

"للقارة عمق تاريخي بدأ يأخذ فاعليته في المتخيل الثقافي وفي الطرح السياسي منذ ثلاثينات القرن العشرين وما تلاها. ولعل اعمال اليخو كاربنتييه الكوبي وانخيل استورياس الغواتيمالي وبابلو نيرودا التشيلي وخوليو كورتثار الارجنتيني وغابرييل ماركيز الكولومبي والى حد ما لويس بورخس ساهمت في القاء الضوء على وضع القارة الثقافي وهم خير من يمثل ذلك في المتخيل الادبي. أما على صعيد التنظير الادبي - السياسي, فإن النتاج الفكري التنظيري للشاعر المكسيكي اوكتافيو باث, الحائز جائزة نوبل للعام الثالث والتسعين من القرن الماضي, قد اثر في الكثير من النتاج النظري لمبدعي القارة. فيما مثل ادواردو غاليانو, مواطن الاورغواي وابتداء من عمله "الشرايين النازفة لأميركا اللاتينية"" الصادر في اوائل الثمانينات, خلاصة جعلت من افكار سابقيه, التشيلي اندريس غوندر والارجنتيني ارنستو غيفارا, حلقات متصلة من التفكير الاجتماعي - السياسي لأبناء القارة. واذا كانت القارة الجنوبية من الأميركتين تنتمي الى العالم الجديد, فإن صلة الوصل مع اوروبا لم تتوقف يوماً. فالقارة اكتشاف اوروبي, كما يزعم, لكن هذه الصلة مع ابن العم الاوروبي المماثل في الدين وفي الجذر الثقافي وفي حالات كثيرة العرق ظلت لثلاثة قرون حكراً على النخبة السياسية - الاقتصادية التي تدير القارة لمعطيات التي برزت الى الواقع بعد الحرب الاهلية الأميركية والغاء العبودية بدأت في تحرير القارة من التبعية الكاملة للنخب الاوربية اثر حروب تحرير ضروس قادها سان مارتين ثم بوليفار. شهدت هذه الحروب مشاركة لأبناء البلاد الاصليين من احفاد حضارات المايا والاستيك والانكا وعلى اثرها تشكلت الدول الوطنية التي تكون اميركا اللاتينية اليوم, ما ساهم في صعود الثقافات الوثنية الاصلية جنب الثقافة المقبلة من اوروبا لتتشكل من صهر الاثنتين: الهوية الخاصة الأميركية اللاتينية التي نعرفها اليوم عبر شعر نيرودا وفاليخو وباث وبورخس والواقعية السحرية للمكسيكي خوان رولفو وغابرييل ماركيز والكوبي اليخو كاربونتييه والادب العالي النبرة للارجنتيني بورخس والبيروفي ليوسا.

القس السانديني ووزير ثقافة حكومة نيكارغوا الساندينية ارنستو كاردينال نموذج طبعت صورته عقد الثمانينات. فهذا المثقف الشاعر ورجل الكنيسة, وإرث فكر خوسيه كاميليو منظر "لاهوت التحرير" انحاز الى شعبه اكثر من انحيازه للروح الكنسية. مشهد تأنيب البابا بولس الثاني له حين زيارته لنيكارغوا منتصف الثمانينات, وامام كاميرات العالم كشف عن انتماء الشاعر الى واقع بلاده اكثر من انتمائه الى فكر كنسي - كاثوليكي الفي. سيرة كاردينال الادبية والسياسية قلما تتوافر في قارة اخرى في القرن العشرين. مسيحيته وثوريته وشعريته معاً تجد جذورها في تقاليد واقع محلي, هو الروح الكاريبية, التي عبر عنها شاعر آخر هو ديريك الكوت الحائز على نوبل في العام الثاني من عقد التسعينات الماضي. فشهادته امام الاكاديمية السويدية لحظة تسلّم الجائزة هي النموذج الامثل للشاعر المكافح. فورش كاردينال الشعرية للأطفال وتواضع الكوت الشعري والسياسي وانغماره في يوميات شعبه من دون طموحات مادية نموذج يجعلنا ننحني اكراماً له.

في اسفل القارة الجنوبية يعطينا نموذج "البرجوازي" بابلو نيرودا سيرة حياة شاعر خاض خضم القرن العشرين ابتداء من الحرب الاهلية الاسبانية مروراً بسفارته لبلاده اكثر من مرة ومنافيه المتعددة حتى وفاته إثر الانقلاب العسكري في ايلول (سبتمبر) 1973 لم يلهث نيرودا خلف وظيفته الديبلوماسية - كان سفيراً لبلاده وعمره 26 عاماً - بل انه جعل من الوظيفة جسراً يربط ثقافة بلاده بأوروبا التي كانت تشيلي الثلاثينات بأمس حاجة اليها, واليه يعود الفضل في تدريب المئات من كوادر بلاده في اوروبا.

في اواسط الخمسينات وبداية الستينات شهدت القارة موجة نزوح وهجرة لمثقفيها الشباب اثر تردي الاوضاع السياسية في القارة. كان الارجنتيني كورتاثار في فرنسا والكولومبي ماركيز بين روما وباريس وبرشلونة والبيروفي ليوسا في باريس والبورجوايان "من بوروجواي" روا باستوس وباريررو سغير في فرنسا والعشرات امثالهم موزعين على بلدان اوروبا. ثم اثر الانقلابات اللاحقة في النصف الثاني من عقد السبعينات في تشيلي والارجنتين وصل الارجنتيني ارنستو سباتو صاحب رواية "النفق" الشهيرة الى باريس والتشيلي كارلوس دروغيت الى جنيف وأمثالهم العشرات.

كان هؤلاء المنفيون يقلبون كل يوم أوروبا عبر ادبهم ومقالاتهم ومشاركاتهم الثقافية مرممين الجسور بين القارة القديمة وقارتهم, فاتحين المنافذ التي ستسقط الديكتاتوريات سنوات بعد ذلك. في الوقت نفسه فإن كوبا المتمردة دائماً ونيكارغوا الخارجة تواً من ديكتاتورية سوموزا صارتا اشبه بقاعدتين لمثقفي اميركا اللاتينية. تحول خوليو كارتوثار الى رسول بسروال وقميص يبشر بمستقبل القارة وينعى الديكتاتوريات قبل اوان سقوطها في الجامعات والمدارس والاندية الثقافية, مشاركاً في الوقت نفسه في برامج للدعم الثقافي لحكومة الساندينيين. اما الكولومبي ماركيز فقد احرج حكومة المكسيك مراراً حين اقامته فيها ولم يلبث بعد حصوله على نوبل في العام الاول من عقد الثمانينات, حتى اسس بجهوده وأمواله معهد السينما في العاصمة الكوبية لاهافانا, ليصير محاضراً عادياً فيه.

وإذا كانت ظاهرة سفراء اميركا اللاتينية تسحر الجمهور الاوروبي خصوصاً, اذ ان الكثير منهم رجال أدب من نمط المكسيكي كارلوس فوينتس الذي مثل بلاده في الهند او اوكتافيو باث او اليخو كاربونتييه او استورياس او نيرودا وآخرين اقل شهرة فذلك لأن اغلب هؤلاء ممن كرسوا في ثقافتهم وسلوكهم اليومي التصاقاً ومعرفة بأحوال شعوبهم وهوياتها المشاركة تاريخياً للهوية الاوروبية والمتفردة عنها في الوقت نفسه بجذرها "الكريولي" الخلاسي والهندي. كذلك فلأنهم اصحاب مشاريع ثقافية وتصورات عملية لواقع ثقافاتهم مستمدة من بحث جماعي عميق لم يتوقف عن الاستفادة من المنجز الاوروبي.


التجربة العراقية والمنفى

للأسف لم يخرج من التجربة العراقية الطويلة في المنفى ومن تراث الصراع السياسي نماذج مشابهة باستثناء حالات نادرة لمثقفين عراقيين تواصلوا مع ثقافة الآخر بعمق, من دون التخلي عن البحث في ثقافتهم, مستنتجين منها تصورات لمشاريع ثقافية تتصل بحلول جذرية لمستقبل العراق, خصوصاً مع التطرف السلبي للحالة العراقية اثر عقود ثلاثة من القسوة وثقافة العنف والفراغ الثقافي. الكثير من مثقفينا اندرجوا في شعاراتية مسطحة او عزلة تحاول ان تستمد مشروعيتها من الخصوصية العراقية. أي العودة عقوداً الى الوراء واستنكافاً عن النظر في منجزات العقود الاخيرة, على المستوى الثقافي العالمي. في الوقت نفسه فإن تناولاً سطحياً للتاريخ تم معتمداً على نظرات ايديولوجية لم تتناول حتى اليوم جوهر المشكلة الاجتماعية - السياسية - الثقافية.

الشعاراتية بدورها تتحول الآن الى عزلة اذ انها تنظر بمقاييس سياسية بحتة للحالة العراقية جاعلة من الثقافي ثانوياً. المواقف وحدها لن تغير الواقع الثقافي العراقي الذي هو في غاية التعقيد والارتباك إذ ان المعركة الحقيقية في العراق اليوم, اكثر من اي وقت آخر, هي الحداثة ام التقليدية لدخول في صلب الثقافة العالمية ام المراوحة في المحلية التي تستلهم ما هو قائم فحسب من إرث لمرحلة مظلمة وتستغني عن منجزات الحضارة بحجج شتى ايديولوجية او دينية او عشائرية لعولمة القائمة اليوم, ما زالت تخيف الكثيرين منا, لأن التعامل معها يتم من وجهة نظر سياسية وليست ثقافية في الوقت الذي ينبغي على المثقفين العراقيين التوغل في دراسة الواقع الثقافي العراقي - على مستوى الطبقات والفئات والاجيال كافة - لإيجاد تصورات لمشروع ثقافي - سياسي, اي البحث في مصادر الهوية اليوم ومساعدتها في الغد في سياق الديموقراطية المرجوة من قبل غالبية العراقيين. فالعولمة في السياق الثقـافي, ومع وجود قاعدة صلبة لمشروع الهوية وما هو منجز منه تعطي نتائج سريعة وباهرة غير انها تصبح سرطاناً في غياب القاعدة الصلبة المرتكزة على وعي التاريخ خصوصاً وعلى الصلة مع هذا التاريخ. فالوعي بالهوية هو اشبه بموزع الوقود في السيارة والذي من دونه تتحول السيارة الى كتلة من الحديد.

ما ينقص مثقفينا اليوم هو دراسة النص الواقعي لمجتمعنا العراقي, بعيداً من المزاج السياسي اليومي في المرحلة الراهنة, إذ ان هذا المزاج في تغير مستمر وهو عابر بحكم الضرورة. بينما الواقع الاجتماعي يعبر عن نفسه بطرق اخرى لا نجدها في النصوص في مجتمع تهيمن الامية على نسبة كبيرة منه. ثم ان الثقافة لن تحل مشكلات اليوم قدر ما تحاول تجنب نكوص محتمل في مجتمع يحمل بين احشائه اكثر من مليوني مراهق لم ينجزوا تعليمهم الابتدائي وأربعة ملايين من الايتام وقرابة المليون من المعوقين ومليون ارملة وعشرين مليوناً لم ينهوا بعد حدادهم. هناك اليوم في العراق ملايين الاطفال الذين لم يشاهدوا طائرة مدنية ولم يدخلوا صالة سينما او يتصفحوا مجلة للأطفال او ينظروا في خريطة للعالم ليحددوا مكان بلادهم عليها!

الدرس الاساسي في التجربة الأميركية - اللاتينية هو في قدرة المثقفين على العودة - على رغم اختلاف السياقات الامنية - ثم في انخراطهم في عمل يومي مع مؤسسات تربوية ثقافية خارج المؤسسات وخارج الاندية الثقافية التي لا تجمع غير المثقفين. الثقافة العراقية اليوم لا تصنعها جلسات مقهى الشابندر الفولكلورية - اصبح المقهى معلماً سياحياً - ولا الموازنة المتواضعة لوزارة الثقافة, انما العملية المعقدة التي تلتقي فيها مشاريع المثقفين المستقبلية وعملهم في ساحة الواقع مع الاجيال الجديدة خصوصاً, مع مشاريع جمعيات المجتمع المدني, ثم اخيراً مع وزارة الثقافة, من اجل خلق بنية تحتية قادرة على استيعاب ثقافة المجتمع الطامحة الى الرخاء والاسترخاء والوفرة والانفتاح على العالم بعد طول قطيعة.

باختصار ينبغي ان يتحمل المثقف العراقي دوره في الابتكار والتصور والعمل بتواضع بحثاً عن صورة واقعية وراسخة للمستقبل, فالثقافة في نهاية المطاف هي ما يبقى بعد ان تهب الرياح.