ماجد عزام: منذ طرحها منتصف أيار (مايو) الماضي استحوذت المبادرة المصرية لتهيئة الأجواء أمام انسحاب اسرائيلي هادئ ومنسق من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية وفق خطة آرييل شارون لفك الارتباط عن الفلسطينيين, على جانب كبير من النقاش الفلسطيني والاسرائيلي والاقليمي والدولي. غير ان الأحداث العاصفة التي شهدها تموز (يوليو) الماضي طرحت الكثير من الأسئلة الصعبة والجدية عن المبادرة وقدرتها على الصمود في وجه التطورات المتسارعة.

فبعد فترة من الهدوء النسبي ضربت المقاومة الفلسطينية بقوة في تموز عبر عمليات نوعية مثل تفجير موقع محفوظة العسكري المحصن في وسط قطاع غزة, ثم توالى سقوط الصواريخ على مستوطنة سيدروت شمال القطاع, ما أدى للمرة الأولى الى وقوع قتلى في صفوف الاسرائيليين. وتمثل الرد الاسرائيلي باجتياح بيت حانون وحصارها وهدم عدد كبير من المنازل وتجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. في موازاة ذلك تم استئناف الغارات الليلية - بعد توقف شهر أيضاً - على الورش الصناعية والمباني السكنية, وكذلك عمليات الاغتيال بحق قادة الانتفاضة الميدانيين, الأمر الذي أدى الى تصاعد التوتر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عموماً وفي قطاع غزة خصوصاً. هذا التوتر دفع الناطق باسم الرئاسة المصرية ماجد عبدالفتاح للقول ان استمرار سياسة الاغتيالات الاسرائيلية سيدفع مصر الى وقف تنفيذ مبادرتها, وشرح منطلقات المبادرة وما يهددها من مخاطر على النحو الآتي: المنطلق الأساس للمبادرة في شأن غزة هو مساعدة الجانب الفلسطيني على تنفيذ التزاماته في "خريطة الطريق" من خلال اصلاح الهياكل الفلسطينية تمهيداً لإنشاء حكومة قادرة على قيادة الدولة وإحكام السيطرة على الأراضي الفلسطينية, غير ان مصر فوجئت بزيادة الهجمات الاسرائيلية والاغتيالات للناشطين الفلسطينيين, ما أدى الى انطباع خاطئ بأن هناك اتفاقاً بين مصر واسرائيل على التخلص من الانتفاضة وهذا كلام غير صحيح بالمرة.

واستطرد عبدالفتاح في شرح المبادرة وضمانات تنفيذها قائلاً ان الاتفاق كان على مساعدة السلطة الفلسطينية على السيطرة الأمنية, وان مصر لن ترسل مدربين أمنيين الى غزة اذا استمرت اسرائيل في اتباع سياسة الهجمات الجوية, وبالتالي لا بد من ضمانات اسرائيلية بألا تقع اعتداءات على الفلسطينيين وضمان سلامة المدربين المصريين وأمنهم, ولا بد من ضمانات من الفلسطينيين بالاستعداد لإعادة هيكلة اجهزة الأمن.

المبادرة المصرية واجهت بمجرد الإعلان عنها الكثير من الصعوبات والمواقف الرافضة أو المتحفظة حتى قبل أن تتردى الأوضاع في قطاع غزة بما في ذلك الاشتباكات والمواجهات الأخيرة بين عناصر مؤيدة لرئيس السلطة ياسر عرفات ومعارضة له. وتلك المواقف شملت الأطراف الرئيسة الثلاثة المعنية بالمبادرة, وهي اسرائيل والسلطة الفلسطينية وحركات المقاومة الفلسطينية: "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في شكل خاص.

اسرائيل بشخص رئيس وزرائها آرييل شارون طرحت خطة فك الارتباط أو الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية كخطة امنية فقط للتخلص من عبء غزة والتفرغ لبناء الجدار الفاصل وتهميش السلطة الفلسطينية وتكريس مقولة "ليس هناك شريك تفاوضي فلسطيني", ومعاقبة السلطة على رفضها تطبيق المرحلة الأولى من "خريطة الطريق" على رغم ان شارون, كما قال في الكنيست, طرح خطة فك الارتباط لإجهاض "خريطة الطريق".

اللواء عمر سليمان سمع مباشرة من شارون حرصه على ألا يفهم الفلسطينيون ان الانسحاب الاسرائيلي من القطاع انتصاراً فلسطينياً, ومن هنا تأتي أهمية بناء السور "الجدار الفاصل" لتقديم الدليل المادي للفلسطينيين على انهم لم ينتصروا. وفهم اللواء سليمان ان الهدف الاسرائيلي الرئيس من الخطة التخلص من عبء غزة وعقاب الفلسطينيين في الوقت نفسه, لكنه أراد استغلال المأزق الاسرائيلي في مواجهة الانتفاضة لتطوير الخطة وجعلها جزءاً من "خريطة الطريق" واستغلال التنفيذ الهادئ لها لعودة الطرفين الى التفاوض.

فهمت القاهرة الأبعاد الأمنية والأحادية لخطة شارون وحاولت تجاوزها وتطويرها في الاتجاه السياسي الاقتصادي والاجتماعي لانجاح مبادرتها في غزة. والتحفظات الاسرائيلية عن المبادرة تبدو جلية في التصعيد الاسرائيلي الأخير في القطاع وفي رفض اعطاء أي ضمان بوقف العمليات الهجومية سواء قبل تنفيذ الانسحاب أو بعده.

لكن التحفظات لا تأتي فقط من الجانب الاسرائيلي وانما من السلطة الفلسطينية ورئيسها. فعلى رغم الحديث الإعلامي المعسول, الا أن مصادر فلسطينية مطلعة تتحدث عن تحفظات فلسطينية جدية أو قراءة سياسية لمجرى الأحداث بما فيها خطة شارون تختلف جوهرياً عن القراءة المصرية.

والقراءة الفلسطينية يمكن تلخيصها وعرضها على النحو الآتي: أولاً: السلطة تشكك في جدية شارون لجهة تنفيذ الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة, وتشير الى أن موافقة الحكومة الاسرائيلية على الخطة (6/6/2004) شكلية وتؤجل كل شيء الى الربيع المقبل.

ثانياً: تعتقد السلطة أن لا شيء جدياً سيحصل حتى الربيع المقبل وان كل ما يجري الآن من تحركات اسرائيلية وأميركية تحركات شكلية وتجميلية وبالتالي فإن السلطة غير مجبرة على تقديم تنازلات جوهرية بخاصة في الجانب الأمني في مقابل وعود وتحركات شكلية.

ثالثاً: مع اقتراب الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل, وتساوي حظوظ المرشحين جورج بوش وجون كيري, ترى السلطة ضرورة الانتظار لمعرفة الرئيس المقبل ثم وضع الاستراتيجية للتعاطي معهك. وفي السياق الاسرائيلي هناك أزمة حكومية حيث تفتقد حكومة شارون الأكثرية في البرلمان, وهناك مفاوضات لتوسيع الائتلاف تشمل مختلف الأحزاب, وتشهد الحلبة السياسية الاسرائيلية حالاً من الفوضى والإرباك وكل الاحتمالات ممكنة بما في ذلك الانتخابات المبكرة وفقدان شارون زعامة الليكود والتالي رئاسة الحكومة, ولذلك تعتقد السلطة بأن لا داعي للاستعجال والحسم قبل اتضاح الصورة في تل أبيب وواشنطن, وان ما جل ما يمكن القيام به حالياً اصلاحات وتغييرات شكلية واحتواء الضغوط الخارجية والداخلية حتى آذار المقبل, هذا يفسر استراتيجية تقطيع الوقت التي ينتهجها عرفات في مواجهة المبادرة المصرية, فهو طلب في 24 أيار مهلة حتى منتصف حزيران (يونيو) لاعطاء رد نهائي, وفي منتصف حزيران طلب مهلة شهرين لإجراء الاصلاحات الضرورية في أجهزة الأمن, واضافة الى ذلك يشترط موافقة حكومة شارون وبموافقة الفصائل الفلسطينية على المبادرة, الأمر الذي يبدو تعجيزياً في ضوء التجارب السابقة. كذلك يبدو لافتاً أن يصر عرفات على موافقة الفصائل وهو الذي تصرف دوماً بصفته الرئيس المنتخب ممثل الشرعية الفلسطينية والقادر على اتخاذ القرارات وفرضها على القوى السياسية الأخرى. طرح عرفات هذا الشرط وهو شبه متيقن من ان هذه الفصائل ترفض أي نشاط أمني من أي طرف خارجي قبل الانسحاب الاسرائيلي ودفع أي ثمن سياسي أو أمني في مقابل الانسحاب من قطاع غزة, هي تفهم هذا الانسحاب إذا - حصل - هزيمة اسرائيلية واعترافاً بالعجز وتضع خطة شارون في سياقها الاستراتيجي, أي تحييد قطاع غزة وجر الفلسطينيين الى حرب اهلية والاستمرار في بناء الجدار الفاصل ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية ووضع الفلسطينيين في سجن كبير في قطاع غزة وتسليم المفاتيح لأي طرف محلي أو اقليمي يقبل باستلامها. كما تصر الفصائل على انسحاب اسرائيلي كامل من قطاع غزة, وسيطرة الفلسطينيين على الحدود الخارجية وأجواء القطاع ومياهه الاقليمية, والسماح لهم ببناء المطار والميناء والتواصل الجغرافي مع الضفة الغربية, وترفض تماماً فكرة تسليم الأسلحة. وتستغرب الفصائل أن يطلب منها الإعلان عن موافقتها على المبادرة فيما لم تستطع القاهرة حتى الآن الحصول على موافقة صريحة وكاملة سواء من الطرف الاسرائيلي أو الفلسطيني.

طبعاً لا يمكن الحديث عن المواقف المختلفة تجاه المبادرة المصرية لتهيئة الظروف أمام الانسحاب الاسرائيلي و"الكامل" من قطاع غزة من دون التطرق الى ما جرى في القطاع من أحداث في الفترة الأخيرة, أي الخلافات التي وصلت حد الصراع والاشتباكات المسلحة بين الأجنحة المختلفة والمتصارعة داخل السلطة الفلسطينية وحركة فتح, وهو ما يؤكد ان لا خوف من سيطرة الاسلاميين أو هيمنتهم على القطاع بعد الانسحاب الاسرائيلي. لا خوف من "حماستان" أو "جهادلاند", بل الخوف الحقيقي من الأطراف التي تبدو مستعدة للذهاب بعيداً لأجل الاستفادة من الانسحاب, ببساطة ومن ان الأطراف التي تحاول المبادرة المصرية تقويتها للسيطرة على القطاع هي التي تتصرف في شكل غير مسؤول وتتجاهل المصالح الوطنية العليا والاستراتيجية للشعب الفلسطيني.