احيت “اسرائيل” في احتفال مركزي شارك فيه عدد كبير من المغنين ذكرى المغنية والملحنة والشاعرة “الإسرائيلية” نوعمي شيمر التي ارتبط اسمها بالغناء ل “أرض اسرائيل” وللتجربة “الإسرائيلية” الصهيونية عموما، في القرية الزراعية، وفي الوحدة العسكرية، كما غنت للقدس، “اورشليم”. واشتهرت اغنيتها “اورشليم من ذهب” التي ألفتها ولحنتها في ايار/ مايو 1967 عشية عدوان الخامس من حزيران/ يونيو، وانطبعت في الاذهان كنوع من التعبئة من اجل احتلال القدس. لم تساوم نوعمي شيمر القادمة من تقاليد حركة العمل الاستيطانية مثل طابنكين وألون وزئيفي وشارون ورفائيل ايتان وغيرهم، لم تساوم لا على الموقف ولا على المستوى. ومع ذلك ارتبط غناؤها بالأداء الجماعي الجماهيري. وقلما جمع فنان “اسرائيلي” هذه المواهب مع هذا الاتقان للغة العبرية.

استمع عشرات الآلاف الى أغانيها في حفل صيفي وشاهدوا مقاطع وثائقية من حياتها على شاشة كبيرة، كونسيرت تحت قبة السماء، في “بارك هيركون في تل ابيب”. وغنوا سوية. والغناء الجماعي القادم من الوحدة العسكرية او الكشفية او المدرسية او حركات الشبيبة هو نمط منتشر جدا ومركب اساسي لا غنى عنه في تعزيز الوجدان القومي والذاكرة الجماعية في “اسرائيل”، بقي واستمر، كما تناقلته الأجيال القليلة منذ حركات الاستيطان الطلائعية. ويعرف عن شارون بشكل خاص حبه للغناء الجماعي مع الأصدقاء. ولا يُحرج القادة “الإسرائيليون” من هذا الغناء كما يحرج القادة العرب حتى في اثناء تمتمة النشيد الوطني.

ظهرت مغنيتهم الوطنية نوعمي شيمر على الشاشة بين الأغنية والأخرى، وسُمِعت تحاور نفسها في اجابة عن سؤال وهي تقول بالحرف الواحد: “بعد اغنية “اورشليم من ذهب” انتقدني كثيرون لأنني انكر وجود العرب، وأنني انفي وجود اولئك الذين يعيشون على الجانب الآخر من المتراس في عبارات في القصيدة مثل “اسواق القدس القديمة مهجورة” او “لم نعد نرى نسوة في طريقهن الى البحر الميت”، اذ رد علي عاموس عوز قائلا: ان اسواق القدس كانت مليئة تعج بالعرب وأن النسوة تتوجهن الى البحر الميت ولكنه يقصد العربيات” (ضحكت نوعمي شيمر هنا، عندما نبهت انه يقصد بالنساء العربيات). وتابعت تقول: “انا انسانة عفوية عادة، ولذلك تجنبت الاجابة السريعة لكي لا أخطئ. وقد بلورت الجواب لنفسي طيلة الفترة، والأمور واضحة لي الآن. انه يقول انه كان هنالك ناس، ولكن بالنسبة لي كل مكان لا يهود فيه هو مكان مهجور ومتروك. كل مكان لا وجود لليهود فيه هو مكان فارغ”. وما ان انتهى هذا المقطع حتى ضج الحفل بالتصفيق الحاد. صفق الحضور، يساره ويمينه، بوحدة وطنية. وغنوا بعد أن نطقت بهذه العبارات العنصرية برومانسية “حلم ليلة صيف”، وتمايلوا مع ألحان الأغنيات كما يفعل الشباب عندما يريدون تأكيد انتماء جماعي، هوية جماعية في موجات بشرية.

الانتماء الجماعي الدبق يبرر كل عبارة عنصرية. والعبارات عنصرية حتى لو استهلت بزوج كلمات يفترض أن يخفف الوقع مؤكداً على النسبية: “بالنسبة لي”، او من “منظوري الخاص”، أو “من حيث أقف”. فالعنصرية ليست نظرية أعراق موضوعية علمية، بل هي رأي، وهي دائماً “بالنسبة لي”، او “بالنسبة لنا”.

الاجماع الوطني “الإسرائيلي” كله كان هناك، وسط اجتماعي يقارب في نطاقه القواعد الاجتماعية العلمانية لليكود وشينوي وحزب العمل. القواعد نفسها التي تتصارع حاليا حول طبيعة الائتلاف الحكومي، مع او من دون متدينين، لكي يكون بمقدورها ان تنفذ برنامج التخلص من قطاع غزة فيما يبدو وكأنه خطوة “اسرائيلية” كبرى نحو التسوية. “اسرا-بلوف” متفق عليه طبعا، “خداع على النمط “الاسرائيلي”. ورغم ان أغاني نوعمي شيمر الأخيرة “إياك ان تقتلع زرعاً” تعبر عن موقف ومزاج معاد لازالة المستوطنات، الا أنهم مع ذلك يجتمعون عليها. فهذا خلاف بالتفاصيل، المهم الحفاظ على يهودية الدولة وقوميتها حول حلم يمتد من طلائعية بدايات القرن الماضي والحلم الذي جسدته وقد تحقق وحتى حلم ارض “اسرائيل” الكاملة الذي لا بأس ان يبقى حلماً وأغنية. وتتصارع هذه الاحزاب حالياً مع وجود او عدم وجود الاحزاب الدينية في الائتلاف المقبل، ومع قانون الزواج المدني ومع الف قضية وقضية، ولكنها تتفق غالباً على ضرورة التخلص من قطاع غزة وبناء الجدار وضرورة اصلاح اقتصادي يقرب بنية الاقتصاد “الإسرائيلي” من بنية الاقتصاد الامريكي، وذلك بالتخلص من بقايا الاشتراكية الصهيونية التي رسبت كقطاع عام متضخم وأموال معونات حكومية للفقراء والعجزة وغيرها. وتبقى للفقراء الأغاني والتعبئة الوطنية. وحدة وطنية بالأغنية، وبالتميز عن العرب. ووحدة وطنية حول الماضي الصهيوني واغاني الطلائعيين، واستهلاكية الطبقة الوسطى، وضرورة وضع جدار بين هذا كله وبين العرب.

ولكن عبارات نوعمي شيمر التي احتفي بها تؤكد أن الجدار كان قد بني. الجدار كان قائما في الحقيقة في القلوب والعقول وفي الثقافة قبل ان يبنى على الارض.

وفي ظل احتفال الاحتلال “الاحتفلال” يتم يومياً خلف هذا الجدار المادي او المعنوي تصعيد القمع في الضفة الغربية وقطاع غزة من دون ان يثير الموضوع اي نقاش في المجتمع “الإسرائيلي” في هذه المرحلة. فهنالك منظمات مختصة تكتب وتبرق وتصدر بيانات وتقدم شكاوى، ولكن المجتمع “الإسرائيلي” بمجمله، السياسة “الإسرائيلية” بمجملها، خلف الجدار. الجدار مضاف اليه الفوضى الداخلية الفلسطينية يشكلان شاهد الزور على براءة الاحتلال مما يجري، كأنه لا علاقة بين القاتل وجريمة القتل، بين الحصار ونتائجه، بين من يفرض الحصار وسلوك المحاصر.

أُدرِكُ حتى الضجر ان الاحتفالات والمهرجانات تعم المنطقة في الصيف. وان الناس تبحث عن مهرجان تحت قبة السماء حتى في رام الله التي تحاول بشكل غير طبيعي أن تتصرف بطبيعية مستحضرةً مثالاً مشوهاً من لبنان في الحرب الأهلية. واعرف انه في نواحٍ أخرى من المنطقة نفسها التي نعيش فيها، الفضاء السياسي نفسه الذي نتنفس أخباره ما زال الناس يذبحون دون سبب واضح سوى الجنون في الجزائر وغيرها، وأن هنالك من يضع القنابل على ابواب الكنائس في العراق، اعرف هذا كله. وأعرف أن مشهد المقنعين وأمامهم رهينة معصوبة العينين بات روتينا. ولكن لا يجوز ان يتنصل المجتمع “الإسرائيلي” في ظل هذا الصيف الدامي من مسؤوليته تجاه ما يدور في المناطق المحتلة، أي تجاه جريمة احتلاله الكبرى التي بدأت قبل كل هذا وما زالت مستمرة.

فهنالك افتراض آخر يجمع هؤلاء الناس في وحدة صيفية غير المهرجان الدوري والشاطئ والسياحة، انهم يقنعون انفسهم وغيرهم بأنه “في البدء كان الارهاب”، وان مصيبة الفلسطينيين الوحيدة هي قيادتهم، كأن هذه القيادة أدت الى نكبة، وليس النكبة أدت إلى هذه القيادة، وانه لو لم يقم الفلسطينيون بأية “عمليات إرهابية” لما قام الجيش “الإسرائيلي” بأية عمليات قمع، ولوفروا على المحتفلين عناء القتل والتنكيل. يقوم الاحتلال بعملية إحالة، نقل “المسؤولية” وتحميلها للضحية. هكذا يستطيع مجتمع بأسره أن يمر مرور الكرام على الغزوات المستمرة لأحياء غزة الفقيرة والتنكيل بنابلس وعلى عملية الإذلال اليومية على الحواجز، وعلى مقتل محمد الشنطير الذي انهى لتوه امتحانات التوجيهي هذا الصيف برصاصتين في الرأس في اثناء قيام وحدة مستعربين باغتيال شبان المقاومة في طولكرم، ومقتل نعمة ابو سحلول (45 عاماً) يوم 2 آب/ اغسطس حين قامت وحدات من الجيش بهدم بيوت في خان يونس. ومقتل محمد زرعان ابن التاسعة يوم 2 يوليو/ تموز، في اثناء عمليات “اسرائيلية” مشابهة في رفح، ومقتل المحاضر خالد صلاح ونجله محمد في اثناء قصف بيتهما يوم 26 يوليو/ تموز، رغم انه لا علاقة لهما بسبب القصف مثل كل من سبق ذكره. حاول المحاضر الجامعي ان ينقذ نفسه بأن يرفع يديه فقتل، وقتل ابنه من بعده. ودفن محمد خلف الله (70 عاماً) تحت انقاض منزله وذنبه ان منزله يقع في محيط مستوطنة “نفيه ديكاليم”. هذا غيض من فيض الصحافة “الإسرائيلية” في الشهر الأول من العطلة الصيفية، الذي شهد تصعيدا في ارتكاب الجرائم.

تتغير المواسم صيفاً وشتاء، ولكن موسم الاحتلال وجرائمه مستمر في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام ،1967 وكادت الجريمة ان تتحول الى روتين لا يلفت انتباه احد. وخطر الحالة “الإسرائيلية” انها لا تعترف بتبلد الحواس وقلة الحساسية كسبب للروتين بل تعتبر ان حججها باتت مقنعة. تماماً مثلما اعتبرت وقف العمليات داخل “اسرائيل” نجاحاً لأجهزة الأمن الاسرائيلية، لأن قوى المقاومة لم تبادر الى اعلان واضح يفسر وقف نوع معين من العمليات كخطوة سياسية او غيرها، ولذلك رسب في الذهن السياسي وغير السياسي “الإسرائيلي” ان مركب الجدار والأجهزة الأمنية “الإسرائيلية “السحري قد حقق نجاحا.

ولكن إزاء انخفاض العمليات الفلسطينية كيف تفسر “اسرائيل” تصاعد النشاط القمعي “الإسرائيلي” اليومي في المناطق المحتلة تحت ستار الفوضى الفلسطينية التي تكشف وجوه النشطاء المفاخرين بسلاحهم في التلفزيون وتحت ستار تبلد الاحاسيس الصيفي، ومهرجانات المنطقة الصيفية؟ كل من يبحث عن تفسير هو واهم، لأنه ينطلق من صحة اسئلة الاجماع القومي “الإسرائيلي” التي تربط بين “العمليات الاسرائيلية” في المناطق المحتلة و”الارهاب”.

تتموضع العلاقة الاساسية والمبدئية بين تنفيذ السياسات والحفاظ على الاحتلال وفرض الحلول السياسية من طرف واحد والعنف “الإسرائيلي”. ويتصاعد العنف “الإسرائيلي”، أي الارهاب “الإسرائيلي”، كلما اقترب موعد فرض الحلول على الفلسطينيين. قد يدعي المحتفلون “الإسرائيليون” أنه لو لم تكن هنالك صواريخ قسام لما جاء امر موفاز يوم 30 تموز/ يوليو للجيش بالقيام بكل ما يلزم، لمنع اطلاق صواريخ القسام البدائية، هذا بعد احتلال وتدمير بيت حانون والتوجه نحو جباليا حالياً. لقد أطلق موفاز يد الجيش “الإسرائيلي” في المناطق المتاخمة للخط الأخضر في غزة. وكتب المعلق “الإسرائيلي” العسكري زئيف شيف يوم 3 من آب/ اغسطس الجاري في “هاآرتس” ان الاستراتيجية “الإسرائيلية” الامنية تتلخص حاليا بجعل السكان الفلسطينيين يدفعون الثمن طالما كان هنالك اطلاق صواريخ في غزة نحو البلدات “الإسرائيلية” الجنوبية. وهو يساوي في ذلك بين معاناة الفلسطينيين على المعابر في رفح وفي ايرز(منطفة بيت حانون). معاناة الفلسطينيين هي استراتيجية حتى يسلك الفلسطينيون بهدوء. هدوء تحت الاحتلال. وماذا يهم ففي النهاية بالنسبة للثقافة المحتفى بها اي منطقة لا يسكنها اليهود هي منطقة خاوية وخربة ومهجورة.

اثناء كتابة هذا المقال جاء خبر حريق مهرجان الثقافة الاستهلاكية في الباراجواي، حريق 300 مواطن حتى الموت في “مول”. وتبين ان اصحاب المول قد اقفلوا ابوابه في بداية الحريق لكي لا يستغل الزبائن الحريق للهرب دون دفع ثمن ما اقتنوا. “اسرائيل” تغلق ابواب قطاع غزة كله مع الفرق انها تشعل النيران فيه.