إذا كنا في مقالاتنا السابقة حاولنا أن نضع كتاب الإسلام المدني الديمقراطي الذي ألفته شيرلي بينار الباحثة بمؤسسة راند الأمريكية‏,‏ في إطار الاهتمام الأكاديمي الأمريكي بتيار الوسطية الإسلامية‏,‏ فإنه قد آن الآوان لكي نعرض لجوهر الكتاب‏,‏ والذي يتعلق بتصنيف الباحثة للتيارات الرئيسية الفاعلة في ساحة المجتمعات الإسلام
ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن هذا التصنيف الذي صاغته شيرلي بينار لايقوم علي أساس فئات جامدة‏,‏ بقدر ماتتوزع التيارات المختلفة علي أفق إيديولوجي واسع‏,‏ مما يسمح بتحديد نقاط الآلتقاء بينها ونقاط الخلاف‏,‏وقد ورد التصنيف في الفصل الثاني من الكتاب وعنوانه الدال البحث عن شركاء لتنمية الإسلام الديمقراطي والخيارات المعروضة‏.‏

ومعني ذلك أن الكتاب ـ كما أكدنا من قبل ـ هو تقرير استراتيجي موجه للإدارة الأمريكية وليس عملا أكاديميا‏,‏ لأنها ـ بنص عباراتها ـ تتحدث عن البحث عن شركاء من اتباع التيارات الإسلامية الأربعة التي تتحدث عنها‏,‏ وهم العلمانيون والحداثيون والتقليديون والأصوليون‏,‏ لكي تتعاون الولايات المتحدة الأمريكية معهم لتنمية ماتطلق عليه الباحثة الإسلام الديمقراطي‏.‏ وهي تقدم لتصنيفها المقترح بعبارة ذات مغزي‏,‏ حين تقرر أن تنمية الديموقراطية في العالم الإسلامي والإسهام بطريقة بناءة في عملية تطور الاسلام مشروع يحتاج إلي وقت طويل حتي يتحقق ذلك أن كل تيار من التيارات التي سبق أن أشرنا إليها يمثل تحديات وآفاقا مختلفة‏,‏ وذلك حين نختبر إمكانية كل تيار لكي يصبح أنصاره شركاء لنا‏.‏ ومن هنا أهمية التقييم في الحوار المستمر الذي سننغمس فيه حول القيم‏,‏ مما يستدعي منا أن نضع أهدافنا بعناية‏,‏ حتي نتلافي النتائج غير المقصودة‏.‏
كانت هذه العبارة هي المقدمة التي كتبتها شيرلي بينار قبل أن تشرع في توصيف سمات كل تيار من التيارات الأربعة التي اختصتها بالتحليل‏.‏

العلمانيون
تقرر الباحثة في البداية أنه بالرغم من وجود بعض الغموض في الوضع العلماني في الديمقراطيات الغربية‏,‏ فإنها تقوم جميعا علي مسلمة رئيسية هي الفصل بين الدين والدولة‏.‏ أو بعبارة أخري بين الكنيسة والدولة‏.‏ ويستتبع هذا الوضع آن العلمانيين في العالم الإسلامي ينبغي أن يكونوا ـ كما تقرر بينار ـ أقرب الحلفاء الطبيعيين لنا في العالم الإسلامي‏.‏
غير أن المشكلة في نظرها كانت ولاتزال أن عددا كبيرا من رموز العلمانيين في العالم الإسلامي ليسوا أصدقاء للولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ بل إنهم في الواقع معادون بشكل متطرف لها فيما يتعلق بمشكلات محددة‏.‏ ولعله يمكن القول ـ كما تقرر الباحثة ـ أن الايديولوجيات اليسارية‏,‏ والاتجاهات المعادية لأمريكا‏,‏ والقومية والمتشددة‏,‏ والبني السلطوية ذات الملامح شبه الديمقراطية‏,‏ هي بعض السمات الرئيسية التي تميز العلمانية الإسلامية‏.‏

غير أن هناك ـ فيما تري الباحثة ـ عقبة أخري تتمثل في كون بعض افتراضات النظريات الغربية وبعض مسلمات صناع القرار الغربيين‏,‏ تذهب إلي أن العالم الإسلامي لايتبني العلمانية بنفس الطريقة التي تتبناها بها ثقافات أخري‏.‏ وذلك علي أساس أنها تري أن الدين له طابع سياسي أساسا‏,‏ مما يدفع إلي الاعتقاد أن انصار التيار العلماني لايشغلون سوي موقع الأقلية في العالم الإسلامي‏.‏ مما يجعل من محاولة الولايات المتحدة الأمريكية إقامة جسور تعاون مع أنصار هذا التيار لا معني لها‏.‏
غير أن شيرلي بينار تري أن هذه الآراء عن وضع التيار العلماني في العالم الإسلامي خاطئة في الواقع‏.‏

وذلك لأن الأنظمة العلمانية قد دبرت أمرها لتمسك بالسلطة وتكتسب الشرعية‏,‏ بل وتتمتع في بعض الأحيان بالتأييد الشعبي‏.‏ ومن ناحية أخري فالحركات العلمانية لها اتباع كثيرون‏.‏
وتسوق الباحثة الأمريكية ملاحظة مهمة مؤداها آن تركيا وهي من بين أنجح الدول الإسلامية حققت التقدم من خلال سياسة تتسم بالعلمانية المتطرفة‏,‏ وهي تقدم في نفس الوقت نموذجا ملفتا لنسق سياسي طور نفسه بنفسه‏,‏ وذلك في وقت وجيز‏,‏ والانتقال من كونه دولة عثمانية إلي نظام علماني‏,‏ ومن هنا يمكن القول إن النموذج التركي يستحق التأمل أكثر مما فعل حتي الآن صناع القرار الغربيون‏.‏ ومن ناحية أخري حينما تتأمل شيرلي بينار المسرح العالمي والمواقف والاتجاهات إزاء الولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث‏11‏ سبتمبر‏2001,‏ فإنها تصل إلي نتيجة مؤداها أن عتبة العداء للولايات المتحدة وللغرب عموما زادت بشكل ملحوظ عن الحقبة السابقة‏.‏

ومن ناحية أخري في تحليلها للاتجاهات إزاء التيار الإسلامي الأصولي حين لا يكون في المعارضة وإنما يكون يمارس السلطة كما هو الحال في إيران‏,‏ فإن من طبيعة ممارساته أن تؤدي إلي اغتراب قطاعات واسعة من السكان نتيجة سياسات القهر التي يطبقها‏,‏ وأيضا نتيجة الجمود الفكري في سياساته الثقافية‏,‏ وتوصي بينار الإدارة الأمريكية لكي تسعي لتعميق هذا الاغتراب‏,‏ حتي يكون ذلك مقدمة لتحول هذه القطاعات الواسعة من الجماهير لتتبني قيم الحداثة‏,‏ وتجد أن العلمانية مبدأ جذابا في حد ذاته‏,‏ لأنه يعطي مساحة واسعة للحركة للمجتمع المدني وتخفف من قبضة الدول‏.‏ وتري الباحثة الأمريكية أن هذا التحول من الأصولية المتطرفة إلي الاتجاهات الحداثية والعلمانية يتم في إيران الآن عبر مسالك ودورب شتي‏,‏ وخصوصا بين الطلبة والشباب الإيراني عموما‏.‏
والواقع أن الأصوليين والتقليديين جروا علي نقد العلمانية الغربية باعتبارها منبع الشرور ومصدر كل المشكلات الاجتماعية‏,‏ وذلك علي أساس أن

النظام الاسلامي هو الذي يضمن ارتفاع المستوي الأخلاقي في المعاملات الاجتماعية‏,‏ ويحقق الاستقرار الاسري‏,‏ ويؤدي بالضرورة الي انخفاض معدلات الجريمة‏.‏
غير ان الباحثة الامريكية تري ان إيران تمثل نقضا واضحا لكل هذه الدعاوي‏!‏

ذلك انه بعد عقود عدة من تطبيق الحكم الاسلامي فإن ايران ـ مثلها في ذلك مثل اي مجتمع معاصر غير إسلامي ـ تغرقها نفس المشكلات الاجتماعية السائدة في هذا العصر الذي نعيش فيه‏,‏ وهي في ذلك مثل اي دولة غربية منحلة‏,‏ إذا استخدمت المصطلحات التي يزخر بها الخطاب الاسلامي عادة في وصف الغرب‏.‏ والدليل علي ذلك ـ في رأي الباحثة الامريكية ـ انتشار تعاطي المخدرات في إيران بصورة غير مسبوقة وكذلك شيوع الدعارة‏.‏
وتخلص شيرلي بينار من عرضها للمشكلات التي يواجهها التيار العلماني في العالم الاسلامي الي ان مثل ايران يقدم في الواقع طريقة بسيطة وعملية لنقض المزاعم التي تذهب إلي أن الحرية الكامنة في الديمقراطية الغربية هي بذاتها المشكلة‏,‏ وأن تطبيق نموذج إسلامي متشدد هو الحل‏!‏
ولذلك تري انه ينبغي إذاعة ونشر فشل الحكم الإسلامي في إيران وذلك علي نطاق واسع‏,‏ وذلك لان هناك جماهير إسلامية غفيرة لا تعرف هذه الحقائق‏,‏ وتظن أن التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية من شأنه أن يحل مشكلات المجتمع‏.‏

تقييم
والواقع ان التحليل الذي تقدمه شيرلي بينار للتيار العلماني في المجتمعات الإسلامية وإن كان يتضمن استبصارات جيدة في بعض المواضع‏,‏ إلا انه يقصر عن الفهم العميق لطبيعة الصراع الثقافي الحاد الذي يدور الآن في جنبات المجتمعات الإسلامية بين التيار العلماني من ناحية‏,‏ وتيار ما يطلق عليه الإسلام السياسي من ناحية آخري‏.‏
ومما لا شك فيه اننا لو أخذنا مصر مثلا لقلنا إن هزيمة يونيو‏1967‏ والتي كانت بذاتها شاهدا علي السقوط التاريخي للنموذج العلماني الاشتراكي ليس في مصر فقط ولكن في العالم العربي كله‏,‏ مهد لصعود تيار الاسلام السياسي الذي زعم انه مادامت الليبرالية قد فشلت من قبل‏,‏ وتبعتها الاشتراكية ذات التوجه القومي‏,‏ فليس هناك سوي تطبيق الاسلام‏.‏ ومن هنا رفع هذا التيار شعار الاسلام هو الحل في محاولة منه لتزييف الوعي الجماهيري‏,‏ والإدعاء انه ما ان يعلن تطبيق الحكم الإسلامي‏,‏ وهو هنا تطبيق الشريعة الاسلامية‏,‏ حتي تحل مشاكل المجتمع جميعا سياسية كانت او اقتصادية او ثقافية‏.‏

ويمكن القول ان تيار الإسلام السياسي قد نجح في اجتذاب جماهير غفيرة نتيجة لانخفاض الوعي الاجتماعي في المجتمعات الاسلامية‏,‏ وفي احيان كثيرة نتيجة لتدني مستوي الثقافة الاسلامية ذاتها لدي هذه الجماهير‏,‏ والتي لا تستطيع التفرقة بين المتن الاسلامي ونعني القيم العليا للاسلام‏,‏ وبين الهوامش العديدة الزاخرة بالفكر الخرافي والتي تؤسس علي التفسير الحرفي الشكلي للقرآن الكريم وللسنة الشريفة‏.‏
بل ان شعار الاسلام هو الحل أصبحت الجماهير تردده بغير تعقل‏,‏ يأسا من الاوضاع الراهنة في ظل انظمة حكم إسلامية علمانية تؤكد الفصل بين الدين والدولة‏.‏

وفي تقديرنا أن اتخاذ موقف موضوعي في مجال المفاضلة بين نظم الحكم الاسلامية العلمانية ونظم الحكم الاسلامية الاصولية او التقليدية‏,‏ يقتضي منهجيا ضرب الامثلة من التطبيقات المعاصرة‏,‏ بدلا من المناقشات المجردة‏.‏
ولاشك انه لابد في هذا المجال من تقييم تجربة الحكم الاسلامي الفاشلة في السودان والتي قادها الدكتور الترابي بأوهامه التي تطرفت لدرجة انه كان يخطط لتأسيس حركة اممية إسلامية‏,‏ في الوقت الذي مارس فيه القهر السياسي ضد كل القوي السياسية السودانية المعارضة‏,‏ بل إن هذا النظام أشاع الفساد الاقتصادي‏,‏ بعد ان استولي عنوة علي الموارد السودانية جميعا‏.‏

ومن ناحية أخري لابد من تشريح النظام الايراني الراهن الذي بدأ ثوريا‏,‏ لدرجة ان بعض الماركسيين العرب أعلنوا انضمامهم لمبادئه في عهد الخوميني‏,‏ ولكنه تحول بسرعة ليتحول الي نظام استبدادي يقوم علي الفساد وممارسة القهر السياسي من خلال حكم الملالي‏,‏ الذين يحكمون بالإعدام علي اتباع التيار العلماني والليبرالي‏.‏
الصراع الثقافي في العالم الإسلامي بين التيار العلماني وغيره من التيارات الأصولية والتقليدية كان يقتضي تحليلا أعمق مما فعلته شيرلي بينار‏.‏