هناك الكثير مما ينبغي أن يقال كي تغدو الصورة أكثر وضوحاً فيما يتعلق بالأزمة التي نشبت مؤخراً بين باريس وشارون حول دعوة هذا الأخير يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل، أكان على صعيد برنامج شارون ورؤاه أم على صعيد دور اليهود وحضورهم في الداخل الفرنسي أم على صعيد العلاقة بين الدولتين، وصولاً إلى معادلة الهجرة والجاليات اليهودية في الغرب.
ما ينبغي أن يقال ابتداءً هو أن دعوة شارون يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل إنما تأتي انسجاماً مع برنامجه الذي فشل فشلاً ذريعاً في تحقيقه. فقد وعد خلال حملته الانتخابية بجلب ثلاثة ملايين مهاجر إلى إسرائيل في غضون عشر سنوات، فجاءت الأحداث لتثبت أن أعوامه في السلطة كانت الأسوأ على صعيد أرقام الهجرة، إلى جانب ظاهرتها الأخرى المثيرة والمتمثلة في الهجرة العكسية ووضوح طموحات الشباب اليهودي للهجرة إلى خارج إسرائيل، واعتراف 70% من الإسرائيليين بأنهم لا يرون مستقبلاً لأبنائهم فيها.
حدث ذلك على خلفية انتفاضة الأقصى التي وعد شارون أيضاً بإنهائها خلال مائة يوم لا أكثر، الأمر الذي فشل في تحقيقه خلال أكثر من ثلاث سنوات. وقد يكون من المناسب هنا الإشارة إلى ظاهرة جديدة برزت بسبب انتفاضة الأقصى، ونتاجاً لمشاعر التهديد الوجودي لإسرائيل التي اجتاحت يهود العالم، فقد أصبح يهود الخارج باعتراف الدوائر الإسرائيلية أكثر يمينية من يهود الداخل، بل إن رجلاً متطرفاً مثل شارون قد غدا أقرب إلى القديس في وعيهم وهم الذين كان معظمهم يميلون إلى دوائر حزب العمل في السابق، سيما أولئك الذين يعيشون في أوروبا والولايات المتحدة.
على هذه الخلفية كان يهود العالم يزدادون توتراً، أكان خوفاً على دولتهم، أم بسبب الموقف منهم تبعاً لمشاعر التأييد للفلسطينيين التي اجتاحت العالم، وليس أوساط المسلمين فحسب. وهنا خرجوا بقصة اللاسامية لمطاردة الذين ينتقدون إسرائيل، وهو الأمر الذي ارتد عليهم كرهاً ومزيداً من الرفض لسياسة شارون وتأييداً للفلسطينيين، وإلى جانب ذلك رفضاً للحرب على العراق التي مثّل اليهود حالة شاذة في تأييدها، الأمر الذي زاد من حساسية الآخرين تجاههم.
كانت فرنسا حالة مميزة لسبب بسيط هو تميز السياسات الرسمية الفرنسية عن المحيط الأوروبي في التعامل مع الملف الفلسطيني والعراقي، وإن بدا الموقف متراجعاً خلال الشهور الأخيرة بسبب ضغوط اليهود وقبلهم الولايات المتحدة. ومن هنا كانت قصة اللاسامية أكثر تفاعلاً في الدوائر الفرنسية من مثيلتها في الساحة الأوروبية، وكان اليهود لا يتوقفون عن رفع عقيرتهم بالشكوى من الظاهرة، فيما زعموا أن المسلمين يشكلون سبباً فيها فمالوا إلى تحميلهم جزءا مهماً من المسؤولية.
على هذه الخلفية عقدت خلال العامين الماضيين جملة من الندوات والمؤتمرات في عدد من الدول الأوروبية تركز كلها على ظاهرة اللاسامية، وهو الأمر الذي لم يحدث بهذا الزخم خلال عقود، وفيما طالب كثيرون بالفصل بين انتقاد سياسات إسرائيل وعداء السامية كان اليهود يحاولون الدمج بين القضيتين بشكل واضح.
من جانب آخر كانت مبالغات اليهود في مظاهر العداء لهم تأخذ منحى آخر ارتد عليهم، سواء بسبب عدم قناعة الناس بالقضية، أم بسبب وضوح الكذب فيها، وهو الأمر الذي برز بشكل واضح في فرنسا وحيث افتضحت جملة من الحكايات الملفقة كان آخرها قصة الفتاة التي ادعت أن عدداً من الشبان المغاربة والأفارقة قد اعتدوا عليها اعتقاداً منهم بأنها يهودية، الأمر الذي أثار فرنسا بأسرها قبل أن يتبين أن الفتاة قد نسجت القصة مع صديق لها بهدف الشهرة والإثارة.
واللافت أن دعوة شارون يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل قد جاءت بعد أيام من افتضاح قصة الفتاة الفرنسية، الأمر الذي يؤكد أن موقفه ذاك لا صلة له باللاسامية في فرنسا بقدر صلته بهواجسه الخاصة بجلب المزيد من المهاجرين على اعتبار أن هجرة يهود فرنسا ستدفع آخرين من دول أقل رفاهاً إلى فعل ذات الشيء.
هنا تجدر الإشارة إلى خصوصية الحالة الفرنسية من حيث كونها الدولة الثالثة بالنسبة لتعداد اليهود بعد الولايات المتحدة وإسرائيل. كما ينبغي التذكير ببعد مهم حكم معادلة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل يتمثل في عدم تركيز وكالات الهجرة على يهود أوروبا الغربية والولايات المتحدة، والسبب هو الميل إلى استغلال نفوذهم في بلادهم من أجل دعم إسرائيل على مختلف المستويات، والخلاصة هي بقاؤهم عنصر إسناد أساسي للدولة التي لم يدخل مشروعها مرحلة الاستقرار رغم عمرها الذي بلغ السادسة والخمسين، ورغم الآمال العريضة التي أطلقها مشروع أوسلو.
والحال أن هذا البعد ينطبق على نحو استثنائي على يهود فرنسا الذين يبدو دورهم في الحياة السياسية الفرنسية كبيراً، بل كبيراً جداً، سيما في الحكومات الاشتراكية التي كان دورهم فيها أكثر وضوحاً، ولا تسأل عن نفوذهم في الدوائر الصحافية والثقافية والفنية.
على أن ذلك لم يحل دون دعوة شارون المشار إليها، والسبب هو إمكانية جلب جزء منهم من دون أن يخل ذلك بدورهم في الساحة الفرنسية وهم الذين يصل عددهم نحو نصف مليون، مع ما يجلبه ذلك من دعم لفكرة الهجرة بالنسبة للآخرين في البلدان الأفقر كما أشرنا لاحقاً.
في ضوء ذلك يمكن القول إن ما جرى ويجري خلال السنوات الأخيرة في الساحة الأوروبية من مواقف حيال اليهود وإسرائيل تبعاً لما يجري في فلسطين، فضلاً عن اتساع دائرة النفوذ اليهودي في القرار السياسي الأميركي وحتى الأوروبي، كل ذلك سيفاقم مشكلة عزلة إسرائيل، ومعها عزلة أقلية فاق نفوذها ودورها حدود المنطق والمعقول. وإذا كانت الهجرة إلى إسرائيل مطلباً للساسة الإسرائيليين بالفعل فإن أحداً في أوروبا لن يذرف الدمع على اليهود المغادرين، لكن ذلك لا يبدو في وارد الحدوث على نطاق واسع في المدى القريب، ليس لأن اليهودي ما زال يفضل العيش في أوروبا والولايات المتحدة على العيش في إسرائيل فحسب، بل لأن دور اليهود في الدول المشار إليها ما زال أكثر أهمية بالنسبة لكيانهم من وجودهم ودورهم فيه، مع أن الأمل باستقطاب جزء منهم لا يقلل من تأثيرهم السياسي سيبقى قائماً.