يعاني جميع الزعماء السياسيين في العالم ضعفاً تجاه «المعلومات السرية» التي تأتيهم عن طريق التجسس. فهي تمنحهم احساساً بالسلطة لا يملكه الآخرون. غير أن الهوس بالتجسس هو أمر غير صحي وينطوي في بعض الأحيان على مخاطر. فالجواسيس، كما تدل حرب العراق الكارثية في كل يوم، وما نتج عنها من بؤس بشري متصاعد، يمكنهم في بعض الأحيان أن يضللوا السياسيين تضليلاً تترتب عليه أخطر العواقب.

فهناك لجنتان تم تشكيلهما للتحقيق في أخطاء وقصور مصلحة الاستخبارات في أميركا، وهما لجنة مجلس الشيوخ لشؤون الاستخبارات واللجنة الوطنية المستقلة التي تضم ممثلين عن الحزبين في أميركا. وقد أثارت تقارير هاتين اللجنتين نقاشاً حامي الوطيس في واشنطن تناول القيمة الفعلية لمصالح الاستخبارات والطريقة التي تم بها تشويهها لأهداف سياسية والطريقة التي يجب تنظيمها في المستقبل.

وأعلن الرئيس جورج بوش بأنه سوف يعين رئيساً جديداً بمثابة قيصر يشرف وينسق عمل وكالات للاستخبارات الـ15 في أميركا والتي يتنافس كل منها في الغيرة على ميدانه واختصاصه. وقد كان تعيين مدير قومي لشؤون الاستخبارات أحد أهم التوصيات التي قدمتها اللجنة الوطنية للاستخبارات التي قدمت في نهاية تموز (يوليو) الماضي تقريرها المؤلف من 567 صفحة عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001.

وقال بوش بأنه سيطلب من الكونغرس، حين يعود الى الانعقاد بعد عطلته الصيفية، الموافقة على المرشح الذي يختاره لهذا المنصب. غير أن منافسه الديموقراطي جون كيري يعتقد بأن في ذلك مبالغة في التروي والتباطؤ... وهو يقول بأنه يجب دعوة الكونغرس الى الانعقاد فوراً لكي يجري دونما أي بطء مسحاً ضرورياً لعمل مؤسسات الاستخبارات في أميركا.

فالولايات المتحدة تنفق 40 بليون دولار سنوياً على جمع معلومات الاستخبارات وتحليلها. ولكن رغم كل هذه الامكانات والتقنيات السحرية التي تحت تصرفها فقد أخفقت وكالات الاستخبارات وجواسيسها في تحديد هوية ارهابيي 11 أيلول وتوقيفهم، كما عجزت عن تقديم صورة دقيقة عن ترسانة الأسلحة التي في حوزة صدام حسين. ولقد ظهر فعلاً بأن التقديرات التي قدمتها وكالة الاستخبارات المركزية في تشرين الأول (اكتوبر) 2002 والتي شن بوش على أساسها حربه على العراق كانت كلها خاطئة، فلم يكن لدى العراق أسلحة دمار شامل ولا ثبت وجود أي علاقة له بـ«القاعدة». وهكذا قامت الحرب على أسس احتيالية ودفع العراق وأميركا ثمنها الباهظ.

أما بريطانيا فهي تنفق أقل من بليوني دولار سنوياً على التجسس، أي ما يعادل خمسة في المئة من مجموع ما تنفقه اميركا. غير أن مصلحة الاستخبارات البريطانية لم تكن أسوأ ولا أفضل من زميلتها الأميركية. فكما تبين من تقرير بتلر الذي قدمه في الشهر الماضي حول اخفاقات مصلحة الاستخبارات (ام اي 6)، ان هذه المؤسسة اعتمدت على مصدرين حول العراق ثبت انهما غير جديرين بالثقة، كما ثبت ان شهرتها في هذا الميدان كانت ضحية الخداع.

ولقد بنى توفي بلير رئيس الحكومة البريطانية قراره في الحرب على العراق على نفس الأسس الواهية والمشوبة بالاحتيال والخطأ، شأنها شأن الأسباب التي تبناها جورج بوش في أميركا حين استطاع فريق صغير من الرسميين الموالين لاسرائيل في البنتاغون تجاوز جميع أجهزة الاستخبارات الأميركية ودفع البلاد الى الحرب على أساس أكاذيب ومعلومات مضللة. فمن أجل أغراضهم الخاصة كان هؤلاء الرسميون يضاف اليهم أحمد الجلبي واسرائيل حريصين على ان تقوم أميركا على قلب نظام صدام حسين وما كانوا ليعبأوا بأي صعوبات يمكن أن تعترضهم للوصول الى هدفهم.

وعليه يمكن التساؤل عن الجدوى من انفاق مبالغ ضخمة على التجسس إذا كان يمكن إفساد الأجهزة على هذا النحو. هل هذه هي الوسيلة المثلى «للحرب على الارهاب»؟ ألم يكن من الأفضل انفاق هذه الأموال لمعالجة أسباب الارهاب؟ تلك هي المسائل الرئيسية التي يدور النقاش حولها بين أعضاء المؤسسات السياسية والعسكرية والاستخباراتية في واشنطن.

لقد أشهرت السكاكين في وجه المحافظين الجدد الذين دفعوا أميركا الى الحرب، وأياً كانت نتيجة انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فلا بد من أن هناك بعض الرؤوس التي سوف تسقط.


دور «قيصر» الاستخبارات الجديد

يعتقد خبراء الاستخبارات المحترفون أن قرار الرئيس بوش بإنشاء منصب لمدير عام قومي للاستخبارات لا يفي بالمطلوب بل قد يساء استعماله وتوجيهه، اذ يبدو أن المدير المقترح لن يملك سلطة فعلية على وكالة الاستخبارات المركزية أو على وكالة الأمن القومي التي تملك من وسائل التجسس على أجهزة الاتصالات الالكترونية وسواها في جميع أنحاء العالم. والأمر كذلك بالنسبة لوكالات التجسس الأخرى الحريصة على المحافظة على استقلالها.

لذلك فلن تكون للمدير الجديد (أو القيصر) سلطة فعلية على مراقبة موازنات الوكالات. ولن يكون في وسعه أن يعين أو يعزل موظفين. يضاف الى ذلك أن 80 في المئة من نشاط الاستخبارات الأميركية يقع تحت سيطرة وزارة الدفاع، أي تحت سلطة دونالد رامسفيلد شخصياً الذي لن يرضى مطلقاً بالتنازل عن الأوراق التي في يده. ومن هنا يمكن التنبؤ بنشوب نزاع بيروقراطي حامي الوطيس حول هذا الموضوع.

ويشار في هذا الصدد الى المقال الذي نشرته مجلة «الايكونوميست» في عددها المؤرخ 31 تموز (يوليو) 6 آب (اغسطس)، لرئيس الموساد السابق افرايم هالفي والذي ينتقد فيه فكرة تعيين «قيصر» للاستخبارات في أميركا. وقد جاء فيه قوله «وفي رأيي المتواضع ليس هنالك خطأ أكثر فداحة من هذه الفكرة بالنسبة لمصالح الاستخبارات. ذلك ان «القيصر» الجديد إذا ما أراد تولي مسؤولية القيادة في أجهزة الاستخبارات فسوف يكون المدير الفعلي لوكالة الاستخبارات المركزية وللوكالات الأخرى. وسوف يكون هو وحده المسؤول عن فحوى التقارير وعن مستوى تقويمها. وسوف يكون المدير المهني للوكالة مسؤولاً تجاه «القيصر». ونتيجة لذلك يصبح رئيس الولايات المتحدة مالكاً بالوكالة للسلطة الفعلية في شؤون الحرب والسلام». غير أن هالفي يخلص الى القول «لا يمكن في الاستخبارات وجود شراكة في المسؤولية، فهي دائماً وستبقى غير قابلة للتجزئة».


اختراق شبكات المقاتلين

تقوم وكالات الاستخبارات الغربية الآن بتخصيص موارد ضخمة لاختراق الشبكات الاسلامية الدولية. فهي اليوم الهدف الرئيسي للتجسس. ويجري استخدام عناصر من الناطقين بلغات دول الشرق الأوسط بأعداد ضخمة للعمل اما لجهاز الاشارة أو كعملاء ميدانيين، فلقد تبين أن الحاجة الأساسية تدعو بصورة خاصة الى الاستعانة بهؤلاء العملاء. فالغاية هي جعل أجهزة المخابرات أكثر فاعلية بدلاً من التفكير بالتغييرات المطلوبة في السياسة للحد من خطر المقاومين الاسلاميين.

وما زالت واشنطن رسمياً تتردد في الاعتراف بأن التمرد الاسلامي الذي تواجهه في أنحاء العالم تعود أسبابه الى سياساتها في العالمين العربي والاسلامي، مثل تسامحها بالنسبة لسياسة اسرائيل الغاشمة وحربها في افغانستان والعراق، واهتمامها بالسيطرة السياسية والعسكرية على النفط وازدرائها لاستقلال العرب وسيادتهم. وهي عوضاً عن ذلك تفضل القاء اللوم في موضوع الارهاب على «الدول المقصرة» وعلى عقيدة الجهاد العنيفة التي لا يمكن اجراء أي حوار أو تفاهم مع أصحابها.

من ناحيتها تتابع اسرائيل أساليبها الوحشية في الأراضي المحتلة واغتيالها للمناضلين واعتمادهما على المخبرين الذين تجندهم بواسطة الابتزاز أو الترهيب، هذه الأساليب التي أسهمت في تدمير المجتمع السياسي الفلسطيني من دون أن يعود على اسرائيل بالسلام والأمن. وقد أدى ذلك الى سقوط ألف قتيل اسرائيلي وثلاثة آلاف اسرائيلي منذ انتفاضة الأقصى.

على أن الأنظمة العربية بدورها تتحمل نصيبها من اللوم والمسؤولية. فهي بدلاً من أن تحاول الحصول على تأييد شعوبها تعتمد على أجهزة المخابرات والأمن لكي تبقى في الحكم. ولكن الاعتماد على هذه الوسائل يؤدي الى نزع الشرعية عن هذه الأنظمة والى افساد المسار السياسي وتدمير أواصر الثقة بين الحكام والمحكومين. وهي تؤدي ايضاً الى دوام التسلط والاستهزاء بحقوق الانسان والعنف.

ليس في وسع أحد أن ينصح أو يوصي بالغاء أجهزة الاستخبارات وصرف تكاليفها الباهظة لحل النزاعات ومعالجة جذور الارهاب. ولكن اعادة توظيف الموارد والجهود أمر لا بد منه كي يصبح العالم أكثر أمناً.