إذا كان الزعيم الشيعي الشاب جداً مقتدى الصدر، يعتبر أنصاره «جهلة»، لأنهم ملأوا قلبه قيحاً، من دون أن يفشي السبب، هل يمكن أحداً أن يتعاطف معهم حين يباغتون مراكز الشرطة ليلاً ليشعلوا مجدداً جبهة النجف؟ وإذا كانت صفتهم الجهل، كما يقول زعيمهم، هل يُفاجأ أحد بالأوصاف التي يختارها لهم الأميركيون؟

في الحسابات الأولية، قد يكون الهدف، مثلما في نيسان (ابريل) الماضي، استضعاف الأميركيين وجرهم إلى مستنقعات دم تنهكهم، ما داموا مضطرين للتدخل، لتفادي انهيار الشرطة العراقية... أو فلوجة ثانية، على أمل إبعاد الأميركيين عن النجف وكربلاء والكوفة، لكن «المارينز» الذين باتوا في عداد القوة المتعددة الجنسية، أبعد ما يكونون عن التخلي عن ساحة الجنوب، بكل بساطة تحت ضغوط «جيش المهدي»، مهما تباينت التقديرات لأعداد «الجهلة» في صفوفه.

وبكل بساطة، يسعى هذا الجيش الذي خرج مجدداً على مرجعية علي السيستاني، إلى خطف الشرطة وهيبتها، لضرب هيبة حكومة اياد علاوي، وتحدي كل الجبروت الذي لوّح به مرات، منذ شكلت الوزارة الانتقالية، كأنه يملك عصا سحرية لشق بحور المسلحين، بل عصا الأميركيين ذاتها.

الدرس لدى «جيش المهدي»، تقليد أعمى لنهج خاطفي الرهائن، الذين نجحوا في زعزعة تماسك «التحالف»، مهما كابرت واشنطن في ادعاء العكس، وارغمت دول الائتلاف على التضحية بمواطنيها في العراق، لضرب الإرهابيين بسيف «الحزم». والفارق الكبير بين الحالين واضح: أن تضحي الولايات المتحدة بمواطني دول «حليفة» شيء، وأن تُرغم مجدداً على الانزلاق إلى حروب شوارع مع المسلحين والمقاومين، لحماية الشرطة، شيء آخر. لذلك، الاختبار واضح في النجف لجيش الصدر الذي لن يكسب سوى غضب المرجعية الشيعية، فيما يلعب بنار جر الأميركيين إلى القتال داخل الأماكن الدينية... واستياء الزعيم الشاب جداً الطافح قلبه قيحاً من «جهل» أنصاره! وإذا اكتمل هذا السيناريو، ربما يرغم الغضب الصدر على تحريض الأميركيين، لسحق «جيش المهدي»!

لا شيء غريباً في العراق، بيومياته الدموية، حيث الجميع محاصر. أسير نهج التجريب. لا أحد يخسر سوى العراقي في الشارع، في المنزل والمسجد والكنيسة، ومن النجف إلى الموصل والأنبار، يحاصر البارود كل الوعود التي وزعها علاوي، ويبدد نتائج جولته العربية، كأنه في واد والبلد في واد آخر.

وأمامه وأمام الأميركيين قائمة أسئلة، من نوع: من يحمي القوة المتعددة الجنسية؟ من يحمي الأمم المتحدة المتأهبة لحماية المؤتمر الوطني؟ من يحمي الأجانب، من دون الجواسيس؟ من يحمي المواطنين العراقيين؟... أماكن العبادة، المدارس والمستشفيات، والسؤال الكبير الذي يفضل الرئيس جورج بوش أن ينساه دائماً، هو كم من مساحة العراق آمنة، بعدما باتت الولايات المتحدة «أكثر أمناً» بخلع صدام حسين؟

العراق اليوم: ملايين من الأبرياء الذين انزاح عنهم كابوس الديكتاتورية، ليحل كابوس الرعب، علماء دين ومثقفون وعلماء، حكماء وجهلة ومسلحون ولصوص وعصابات وجواسيس وعملاء لمن يدفع أكثر... «منطقة خضراء» أميركية في قلب بغداد المحاصرة بأشلاء الجثث، تتطاير كلما علا غضب علاوي ووعيده، وارتفعت نبرة بوش مزهواً بحلم «ديموقراطية العراق».

هواجس من فتنة بين المسلمين والمسيحيين، وأخرى بين السنّة والشيعة، ورهان على فتنة كبرى بين المقاومة والمسلحين «الأجانب». أما حصر نتائج كل مواجهة، وكل مجزرة، فلا يصب سوى في قناة العبث. أرقام سود، والآتي ليس أسراراً، إلا إذا كان رهان «العقلاء» في «جيش المهدي» وسواه على الحاق هزيمة كبرى بالأميركي، فينسحب سريعاً قبل أن يضطر جون كيري إلى سحبه «بشرف».

في أميركا المنهكة بالحملات الانتخابية الرئاسية، اللعب على نار العراق بات على أشده، أما وطيس معركة النجف فمجرد امتحان لحكمة الذين سماهم الصدر «جهلاء» في «جيش المهدي».
... وأما الصدر ذاته، فنصيبه آخر.