تتواصل الاستجوابات في قضايا التعذيب، وبات أمام المحققين الأميركيين عدد متزايد من الحالات من أبو غريب إلى أفغانستان إلى غوانتانامو. وكما في العملية الجديدة للبحث عن «المسؤول» في أحداث 11 سبتمبر، وعن «المسؤول» في أخطاء التحضير للحرب على العراق، يصار حالياً إلى إلقاء أكبر كمٍ من الأعباء على الأشخاص في المستويات الدنيا لئلا يدان من هم في المستويات العليا، لأن توجيه مصعد الاتهامات إلى «فوق» قد يعني الصعود إلى أعلى الهرم وهذا مرفوض استراتيجياً، أما الهبوط إلى «تحت» فليس مُهماًَ إذا بلغ أسفل الهرم، بل لعل هذا هو المطلوب.
إذاً، فالتحقيقات والمحاكمات التي ستليها تنطلق عملياً من افتراض براءة الكبار. ولا عجب لأن الصغار وجدوا أصلاً لتحمل نتائج أخطاء الكبار. ثم أن تجريم الصغار، بسبب مبالغات ونزوات واساءات في استخدام السلطة، يبقى في إطار الأخطاء والتجاوزات، بل الانحرافات المتوقعة، وبالتالي فهو لا يعني تغييراً في القيم والمبادئ التي يدعي «النظام» أنه يمثلها وأنه موجود للدفاع عنها. فالقيم تتغير فقط إذا اراد الكبار ذلك. ولا نزال بعيدين عن سماع اعتراف واضح بأن 11 سبتمبر أدى فعلاً إلى مثل هذا التغيير، لكن أكثر المحبين لأميركا والمعجبين بها باتوا يعرفون أن أميركا لم تعد أميركا، وان استيعابها للحدث الذي ضربتها لم ينعكس سلباً عليها وحدها وإنما هو مضى بعيداً في تصدير السلبيات.
آخر مظاهر هذه السلبية نجده في مجريات الحملة الانتخابية الأميركية التي لم تبرز بعد كل أسلحتها. فالأسابيع المقبلة ستشهد مزيداً من الانتهازيات. ولأن مؤتمر الحزب الديموقراطي ساهم في بلورة صورة مرشحه جون كيري لدى الرأي العام، فقد كان متوقعاً ومفهوماً أن يشن الحزب الجمهوري هجوماً مضاداً لتبديد مكاسب منافسه. ما هو الطريق الأقصر إلى ذلك؟ إعادة الإرهاب إلى الواجهة. «التهديدات» موجودة ومستمرة، درجات التحذير تتراقص بين الأصفر والبرتقالي، «المعلومات» تتدفق من دون توقف، هناك دائماً «متآمرون» يعملون في مكان ما ولا يُعرف لماذا يكشفون في هذه المناسبة وليس قبلها، وهل يعقل أن يكون هناك مشتبه بهم متروكون للعمل بهدوء ثم يلتقطون في التوقيت المناسب وعلى نحو يؤكد أن خطراً كبيراً ووشيكاً قد جرى تداركه... وهكذا يستطيع الأمنيون أن يتباهوا بانجازهم، ويستطيع السياسيون أن يقولوا للجمهور ان بقاءهم أفضل ضمان لإبعاد أي خطر.
لا يستغرب أي مراقب أن يستخدم «الحزب الحاكم» في أي بلد مثل هذا الأسلوب لتخويف الناس واقناعهم بأن ثمة مجازفة في تغيير الطاقم الحاكم. فهذا حدث ويحدث وسيحدث في أي بلد عربي أو افريقي أو أميركي لاتيني، أما في الولايات المتحدة فمن الطبيعي أن يثير الاستغراب، لأن الاقتناع السائد هو أن هذه الدولة العظمى مؤهلة للسيطرة على الحدث لا أن يسيّرها الحدث. وبالتالي، مهما بلغ الخوف من الارهاب، ينبغي ألا يكون له دور أساسي في تحديد وجهة الناخبين. أي ان مكافحة الارهاب مهمة مستمرة حتى لو تبدلت وجوه الحكام. ومن هنا فإن استخدام الارهاب استدراجاً للأصوات في صناديق الاقتراع ليس أمثولة جيدة تعطيها أميركا للدول التي تريد دفعها الى «اصلاح» أنظمتها.
الوجه الآخر الخطير للتغيير الحاصل في القيم، والوجوه كثيرة جداً على أي حال، نجده في القوانين الجديدة التي تجيز استسهال الاعتقال وتعفي من الشفافية في توجيه الاتهامات، معتمدة على الشكوك أو على مجرد «معلومات» قد تكون ملفقة أو افتراضية. فمئات وحتى آلاف الاعتقالات، اذا أخذت على مستوى العالم، لم تؤد إلا الى بضع محاكمات قليلة، بعضها لم يتمكن من أن يثبت شيئاً. ومع ضرورة تفهم اعتبارات الردع الاحتياطي، كذلك مع عدم افتراض براءة جميع من حصدتهم الاعتقالات، إلا أن السلوك الاعتباطي بات يفرز نتائج سلبية لعل أهمها ترسيخ مناخ من الشك والاتهام للمسلمين بغض النظر عن قربهم أو بعدهم عن «الوسط الارهابي». بعد 11 سبتمبر مباشرة كان النظام نفسه في البلدان الغربية ضماناً لعدم الانزلاق الى ممارسات لا تجيزها القوانين. لكن الواقع بدأ يتجاوز هذه القوانين، مما يثبت ان الحرب على الارهاب لم تقترب من نهايتها بل انها تحرز «نجاحات» لم يحلم بها الارهابيون.