هل أن وجهة القصيدة هي الغياب أم الغائب؟ سؤال راودني كثيرا بعد أن قرأت صباح أمس الرسالة الالكترونية التي أرسلها صديق لي يسكن في الطرف الآخر من العالم، وتتضمن جملة من كتاب يقرأه بعنوان lt;lt;عن المخاطبgt;gt;، للشاعر الروسي ماندلشتام، يقول فيها: lt;lt;لكل شخص أصدقاء. لماذا لا يتوجه الشاعر إلى أصدقائه، إلى أشخاص مقربين منه؟ إن البَحّار، وفي لحظاته الحرجة فوق ماء المحيط، يرمي زجاجة مغلقة وفيها ورقة عليها اسمه ووصفا لما آل إليه مصيره...gt;gt;.
هل فعلا نستطيع أن نشبه القصيدة برسالة ما، أي أنها تبحث عن غائب لتصل إليه؟ يتراءى لي أن وجهة القصيدة هي الغياب لا الغائب، من هنا، وبخلاف ماندلشتام، لا تتوجه القصيدة إلى أحد، بل تحاول أن تبحث عن شخص غير محدد، عن شخص من الصعب لا بل من المتعذر الإمساك به. صحيح أن القصيدة تحاول أن تجد هذا lt;lt;المرسَل إليهgt;gt; في منطقة يستطيع أن يظهر فيها معنى بحثها هذا، مع التأكيد، أنه عليها أن تكون هي نفسها هذه المنطقة مثلما عليها أن تبذل قصارى جهدها وبدقة كي تحيل نفسها ملائمة لهذا الظهور. من هذا الحيز، نجد هذا اللبس الأساسي ما بين هدفها وما بين طريقة سيرها، لأن الهدف ليس مفارقة للمسيرة طالما يستمر العمل الشعري، وطالما تستمر قراءته.
بالطبع ليس ما تقدم تأكيد قاطع، إنه فقط انعكاس مباشر لرأي الشاعر الروسي، وبخاصة هذه الجملة المحددة، إذ لم أقرأ كتابه هذا، من هنا إن مجال lt;lt;ردة فعليgt;gt; يتحدد بهذه الجملة لا غير. لا تبدو لي المسافة بين الذي يكتب والمرسَل إليه مسافة ملائمة كي نصف هذا الفضاء الذي تحاول ان تشغله القصيدة. في الواقع ليس للقصيدة وجهة، وللسبب نفسه، بكون هذا المرسل إليه يقع داخل نفسه، ولأن كل عمله التعبيري يتمثل في أن يجعل هذا الوجه الداخلي ينبثق: هذا الوجه الذي يأتي، الذي سيأتي، الذي لا يأتي. من هنا قد تكون القصيدة هي من يكتب نفسه، وهي في الوقت عينه، هذا المجال لمن سيأتي.
لو كان للقصيدة lt;lt;مرسل إليهgt;gt; مثلما هناك واحد للرسالة، لكان عليها حينئذ أن تتوجه إلى وجه خارجي، عندها لن نجد في علاقتها به إلا نوعاً من lt;lt;موعدgt;gt; في الزمان والفضاء. حتى وان تخفف هذا الموعد فان ذلك لن يغير شيئا أبدا من طبيعتها وعندها لن تكون القصيدة إلا نوع من lt;lt;رسالةgt;gt; موجهة الى مرسل إليه لا إلى قارئ. يقترب المرسل من الكتابة التي يتلقاها وهو يوافق على جميع اتجاهاتها، من هنا سرعان ما يدخلها إلى حميميته، إلا أن القارئ يعرف وهو يقرأ بأنه لن يستهلك أبدا وجهة الكتابة، بل على العكس يطورها.
ليس للكتابة أي خارج تتكئ عليه، لأن القارئ لا يكون قارئا إلا من اللحظة التي يدخل فيها إلى القصيدة، ولا يبقى خارجها مثل الرسالة.