في زمن كان الحب فيه فصيحا.. بليغا.. يتكلم أكثر من لغة.. وينطق بأكثر من لسان.. كانت «نادية الراوي».. هى أشهر خرساء.. كانت عواطفها عاجزة عن النطق.. لا تعرف كيف تعبر عن نفسها؟.. كيف تفصح عنها؟.. كيف تقول ما يخطر على قلبها؟. كانت ترى ولا تتكلم.. تقرأ روايات العشق ولا تعيشها.. تحب من بعيد.. ولا تجرؤ على الاقتراب.. تحب صورة في صحيفة.. لقطة في فيلم.. لوحة في ديوان شعر.. خيال عابر في طريق عام.. لكنها.. لا تقدر على البوح..

بل لا تقدر على الهمس بينها وبين نفسها.وأمام المرآة كانت تقرأ الشعر على نفسها.. كأن رجلا كتبه لها.. «أكثر ما يعذبني في اللغة.. أنها لا تكفيك.. وأكثر ما يضايقني في الكتابة أنها لا تكتبك.. أنت امرأة صعبة.. أنت امرأة لا تكتب.. كلماتي تلهث كالخيول على مرتفعاتك.. ومفرداتي لا تكفي لاجتياز مسافاتك الضوئية.. معك لا توجد مشكلة..

إن المشكلة هى مع الأبجدية.. إن ما يحزنني في علاقتي بك.. أنك امرأة متعددة.. واللغة واحدة.. فماذا تقترحين أن أفعل.. كي اتصالح مع لغتي.. وأزيل هذه الغربة.. بين الخزف والأصابع.. بين محيط عشقك.. وطموح مراكبي.. لاكتشف الكرة الأرضية؟».

كان كل شيء حولها يقيدها.. يجمدها.. يسكتها.. يفقدها وزنها واتزانها وصوتها.. فهي ابنة عشيرة عراقية.. بدوية.. صارمة.. معجونة بشموس حارقة.. صارخة.. تعرف القهوة المرة ولا تعرف رغوة «الكابتشينو».. تعرف لعبة الرمح والسيف ولا تعرف رقصات القردة في «الديسكوتيك».. تعرف فحولة «عنتر بن شداد» و«لا تعرف رخاوة» و«مايكل جاكسون»..

تعرف «امرئ القيس» و«جميل بثينة» ولا تعرف «نزار قباني».. تعرف الربابة ولا تعرف الإذاعة.. تعرف العباءة المشغولة بوبر الجمل ولا تعرف خطوط الموضة المرسومة بأصابع «جورج أرماني».

وقد تعودت في مضارب العشيرة أن يحدث كل شيء بسهولة.. بضمير ناعم.. وبلا سبب.. بلا بسبب تشتعل الحروب.. بلا سبب تقتل النساء.. بلا سبب يموت الأطفال.. لا أحد في الصحراء يشغل نفسه بالتفسير والتبرير.. فالصفر هناك ليس أول الأرقام.. بل آخرها.. والعدالة لا تتحقق في الدنيا.. بل في الآخرة.

هذه هى خلفية المسرح الذي وجدت «نادية الراوي» فيه نفسها.. ومأساتها.. وعارها. كانت تزور قريبتها الثرية في بغداد.. ذهبت إليها في سيارة «جيب» قوية.. تملكها عائلتها معبأة بالحراسة البدوية المسلحة.. في الطريق وجدت القوات الأميركية تسيطر على كل شرايين الحياة وتضع بين كل رجل وامرأة سيارة مدرعة.. وتفتش في كل «حفاضة» طفل عن قنبلة من قنابل المقاومة.. ولم يكن من الصعب عليها أن ترصد بفطرتها البرية تلك المشاهد البربرية.. العصبية.

لم تكد تجلس في شرفة بيت قريبتها تتناولان القهوة والتمر حتى فوجئت بهجمة عسكرية أميركية شرسة.. سيطرت الأحذية السوداء الثقيلة على المكان.. مزقت الأستار.. سحبت الهواء.. بحثت عن أسلحة خفيفة.. ووجدتها.. تطاير الشرر الأحمر منها.. قبضت عشوائيا على كل من صادفها.. بمن فيهم هى..

عبثا حاولت إفهام المترجم المصاحب للدورية أنها ضيفة.. عابرة.. ليس لها في الثور ولا في الطحين.. بكت.. توسلت.. انهارت.. أغمي عليها.. وعندما استردت وعيها وجدت نفسها في سجن «أبوغريب» الرهيب. ذلك السجن الاسطوري الذي لن تنتهي جرائمه ومآسيه.. فلاتزال في ملفاته السوداء بقية.. لا تعرف التقية.

كانت بطلة القصة تجلس أمام كاميرات التليفزيون الألماني وهى مغطاة بالسواد لا يظهر منها سوى صوتها النحيف المرتعش المعبأ بمياه الدموع العلنية والجوفية.. كانت الضحية الأخيرة حتى الآن.. وقد اهتمت بها الدنيا كلها.. بينما نحن كالعادة نسخن إلى حد الغليان.. ثم نبرد إلى حد التجمد.. نهتم إلى درجة الجنون.. ثم ننصرف وكأن لا شيء قد حدث.

في السجن الذي فاحت رائحته وضعوها في زنزانة غارقة في مياه المجاري.. تشعر فيها الفئران بألفة مستقرة.. تسودها العتمة والرطوبة ويسيطر عليها الخوف والفزع.. وفي الخارج كانت ضحكات الجنود وسخرياتهم الوقحة ترسم لها صورة قاتمة لمصيرها.. وبقيت في مكانها وحيدة أسبوعا كاملا.. لتجد أمامها مجندة في حجم الفيل.. لم تتردد في ضربها بقسوة.. وسبها بسهولة.. والسخرية منها بنشوة.. وادعت أنها وضعتها تحت مراقبة دقيقة عن بُعد بالأقمار الصناعية..

حتى إنها سجلت لها لحظاتها الخاصة جدا مع زوجها.. وعندما قالت لها: إنها «غير متزوجة».. صفعتها بظهر يدها.. ثم أمسكت بسوط متعدد الأطراف وراحت لمدة ساعة كاملة تجلدها باستمتاع مرضي لا يمكن إنكاره.. وبعد أن اكتفت قدمت لها كوبا من الماء اكتشفت فيما بعد أنه ممزوج بمخدر قوي.. فراحت في غيبوبة.. ولم تفق إلا بعد ثلاثة أيام.

استردت «نادية الراوي» وعيها لتجد نفسها عارية من ثيابها وكرامتها وشرفها.. وأيضا عقلها.. فراحت تخبط رأسها في الحائط بهستيريا امرأة بدوية مغتصبة.. وهو ما استفز المجندة الأميركية فدخلت هى وخمسة جنود يضربونها وتعاقبوا على اغتصابها وسط موسيقى صاخبة، وكأنهم في ديسكوتيك سرى في حي من أحياء في نيويورك.. وتكرر المشهد أكثر من مرة.. على مدى أسبوع واحد.

فقدت البدوية العراقية قدرتها على التركيز والنوم وسيطرت عليها الهواجس العشائرية.. إن أهلها لن يغفروا لها ما حدث.. لن يقبلوها مهما كانت مبرراتها.. ستجد نفسها ضحية مرة أخرى.. ضحية وطن يضع الشرف في ثقب إبرة.. ويعتبر المرأة مسئولة عنه.. ولا يقبل دون ذلك.. سيعاقبها وطنها بجريمة هو نفسه يعاني منها.. جريمة الاغتصاب بكافة أشكاله السياسية والعقلية.

تركوها شهرا تسترد فيها أنفاسها المقطوعة والضائعة حتى تصورت أن القلوب الغليظة عرفت الرحمة.. والأحذية الثقيلة عرفت السكينة.. بل أكثر من ذلك دخل عليها جندي زنجي ورمى لها قطعتين من الملابس العسكرية الأميركية المبرقشة.. وأمسك بيدها بعد أن وضع كيسا من الخيش على وجهها.. واقتادها إلى الحمام..

وأغلق عليها الباب.. وانصرف.. نظرت إليه نظرة رقيقة فيها عرفان وامتنان.. وراحت تسكب الماء على جسدها لعلها تصل إلى لحظة التطهر.. واغلقت عينيها في استرخاء لم تشعر به منذ فترة طويلة.. لكن.. فجأة ودون مقدمات وجدت الجندي الزنجي أمامها عاريا وسارع بتكتيفها، وبوحشية تتجاوز حدود الهمجية والبربرية اغتصبها.. ثم تركها لاثنين من زملائه ليأخذا نصيبهما منها.

بعد مائة يوم جاءت جلادتها التي عرفت أن اسمها «ماري» وطلبت منها أن تشهد أن معاملتهم لها كانت راقية تناسب ما وصلت إليه الحضارة الأميركية من احترام لقيمة الإنسان.. كان عليها أن تقول ذلك أمام ضابط كبير سيزور السجن.. وفي المقابل سيفرج عنها.. وقبل أن تبدأ الصفقة جرتها من شعرها إلى الحمام ولطخت وجهها بمساحيق فاقعة وكريمات مرطبة..

وما أن انتهى الحمام حتى حملها أربعة جنود إلى زنزانة نظيفة مكيفة فشعرت ببعض الارتياح.. لكن.. فجأة.. هجم عليها الجنود ونزعوا ملابسها.. وتركوها عارية لتغتصبها «ماري».. وراحوا يلتقطون صورا تذكارية.. وكأنهم أمام مشهد سياحي والحقيقة أنه مشهد سياسي.. نصب تذكاري لحرمة شعب محتل.

أكثر من ذلك امسكت «ماري» بمسدس قريب منها وأطلقت أربع رصاصات بالقرب من رأسها.. وهى تقول: «الخامسة ستكون في رأسك» ثم تركتها للجنود الأربعة لينالوا نصيبهم من جسدها العربي المستباح.. فمن يغتصب وطنا.. يغتصب ترابه وموارده وهواءه ونساءه.

في اليوم التالي أطلقوا سراحها.. وقدموا لها هدية البراءة.. عرض فيلم يصور ما جرى لها.. إن الشعور بالاغتصاب أقل ألما من رؤيته.. ولم تتردد «ماري» في أن تقول لها: «لقد خُلقتم كي نتمتع بكم».. وفي هذه اللحظة هجمت «نادية الراوي» عليها.. وبكل غضب الأنثى المجروحة راحت تنشب أظافرها في لحمها وتمزق ثيابها.. وكادت أن تقتلها لولا تدخل جنود الحراسة المرافقين لها.. وبعد شهر قضتها الفتاة العراقية المهلهلة في الصوم والصلاة أفرجوا عنها.. ألقوا بها على الطريق السريع وكأنها «كيس قمامة».. ومشوا.

لكن.. كانت المشكلة الأكبر والأصعب: إلى أين تذهب؟.. والكارثة التي لا يمكن تحملها أنها تحمل في بطنها فضيحة مجهولة النسب.. لا تعرف كيف تتخلص منها.. ولا كيف تتقبلها.. وهى تعرف أن الذبح ينتظرها عند أول خطوة في الطريق إلى أهلها. وفي حيرتها.. قابلت صحفية ألمانية.. عرفت قصتها.. فحملتها إلى الكاميرات.. لتجسد حقيقة ما جرى.