حسن أحمد عبدالله: ربما يكون أطرف عفو رئاسي، وعلى مر التاريخ، ذلك الذي أصدره الرئيس الفرنسي لوي لوبيه عام 1902، وقضى باسقاط حكم الاعدام عن مجرم بسبب عدم ايجاد المكان المناسب لوضع المقصلة، وذلك كان في السادس من اغسطس من العام المذكور اعلاه، وربما تكون المأساة الاكثر بشاعة ودموية على مر التاريخ هي اسقاط القاذفة الاميركية قنبلة نووية على مدينة هيروشيما اليابانية في السادس من اغسطس عام 1945 وبعدها بثلاثة ايام ألقيت قنبلة ثانية على مدينة ناغازاكي اليابانية ايضا.
بين العام 1902 والعام 1945 شهد العالم الكثير من الاحداث التي غيرت وجهه والى الابد، ففي غضون 23 عاما انتقلت الولايات المتحدة الاميركية من موقع المحايد في الحرب العالمية الاولى (1914 - 1918) الى شريك أساسي في الحرب العالمية الثانية، والوحيدة في التاريخ البشري التي استخدمت أسلحة الدمار الشامل ضد أهداف مدنية, وفي غضون عقدين من السنين تحولت الامبراطورية العثمانية الى دولة عادية وعلمانية تعاني من مرض اقتصادي عضال لم تشف منه حتى الان، وكانت أولى علامات التحول التركي بدأت في الخامس من اغسطس عام 1919 عندما قاد مصطفى كمال اتاتورك تمردا عسكريا ضد قوات الحلفاء في تركيا، وكانت السلطنة العثمانية قبل ذلك التاريخ بعام قد خسرت الحرب التي انهت نحو ما يقرب من خمسة قرون من عمر الامبراطورية.
وإذا كان أتاتورك اعتبر لاحقا الأب الروحي لتركيا الحديثة، فإن ذلك ولغاية الان لم يمنح تركيا جواز المرور الى القطار الاوروبي الذي بات يضم الان 25 دولة جعلت المسألة الدينية اساسا في دستور وحدتها، وبالتالي فإن التمايز الديني التركي عن بقية ركاب القطار الاوروبي يجعلها دائما في امتحان من اجل القبول بها اوروبية قابلة بكل ما تفرضه الاوروبية الجديدة على من يرغب في حمل هويتها، هذه الهوية التي دفعت ثمنها في القرون الغابرة عشرات الملايين من الضحايا في دهاليز مئات الحروب، على اختلاف أشكالها.
الوحدة الاوروبية التي بدأت في اواخر النصف الاول من القرن الماضي وواجهت امتحانها الاول عام 1950 عدما دمر شبان بريطانيون وفرنسيون وايطاليون وألمان الحواجز على الحدود بين المانيا وفرنسا احتجاجا على بطء الوحدة الاوروبية، احتاجت هذه الوحدة الى نصف قرن بالتمام والكمال حتى تكتمل مرحلتها الاولى، واحتاجت الى انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط غالبية الانظمة الشيوعية في المحيط الاستراتيجي لهذا الاتحاد، والى تحالف لا سابق له بين الولايات المتحدة الاميركية وبضعة فصائل من الميليشيات الافغانية وبعض الحركات الدينية الاسلامية المتطرفة من اجل كسر البوابة الافغانية التي عمل على صبغها باللون الشيوعي الاحمر الاتحاد السوفياتي.
في كل ذلك كانت الدماء تسيل بكثافة في أكثر من مكان في العالم، ودائما كان صوت العقل يركن في الزوايا القصية لأن صوت آلات صنع السلاح كانت ولا تزال هي الأعلى والطاغية على كل الاصوات, ولهذا كانت فتاوى المصالح الاقتصادية تجوّز ما لا يجوز اخلاقيا وانسانيا وتلبسه عباءة سياسية في سبيل المزيد من التوسع في سوق بيع الاسلحة.
في كل هذه الاحداث كان العالم العربي هو المعفى عنه لعدم وجود المكان المناسب لوضع المقصلة التي سيعدم بها، فهو الخارج من تحت رداء السيطرة العثمانية التي استمرت اربعة قرون وعامين بالتمام والكمال ليدخل مباشرة تحت الرداء الفرنسي - الانكليزي الذي فصله الخياطان سيكس وبيكو ووضع فيه بلفور جيبا عام 1917 اسمه «الوعد باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين»، وبينما كانت اوروبا تبني وحدتها وتتغلب على كل المصاعب والعراقيل كان العالم العربي يغرق اكثر فأكثر في المماحكات بين دوله، ودائما كانت الخلافات على اشياء ثانوية وتافهة، وكان الافتراق العربي يزداد بعدا، في حين كانت جامعة الدول العربية عنوان التلاقي المفترض بين الاشقاء اللدودين، وبالمناسبة فإن عبدالرحمن عزام، وهو اول امين عام للجامعة، كتب في مذكراته «ان هدف الملك فاروق من انشاء الجامعة العربية تتويج نفسه زعيما على العرب»، وهذا الهدف ربما يكون قد تولد عند فاروق، الذي مات في المنفى بعد ان عزلته الثورة البيضاء عام 1952، عندما رأى أن لا خلافة اسلامية حاكمة بعد زوال الخلافة العثمانية.
لوبيه الذي أصدر عفوه عن المحكوم الفرنسي في مطلع القرن العشرين طوته الايام والاحداث والحروب والشخصيات التي لمعت في ذلك القرن، ولكن فظاعة الدمار والموت التي فجرتها واشنطن في اليابان لا تزال اكثر طزاجة في اذهان الاجيال، وهي ستبقى طالما بقيت شركات صناعة السلاح تصيغ لغة الخطاب العالمي، ولهذا لم يعد مستغربا الحديث عن الاسلحة التي يستخدم فيها اليورانيوم المستنفذ، وبات انتشار مرض السرطان مسألة عادية جدا في الدول التي تمر فيها الاسلحة الاميركية، بينما المستغرب هو ان يقول احد المغلوب على أمرهم ان الانسانية انهكت من بشاعة الحروب والدم والدمار، وان جشع شركات الاسلحة لا يسكته اي شيء ليس على الكرة الارضية فحسب، بل في كل مجرات هذا الكون، ولذلك نرى أن اثارة الغرائز، ايا كان نوعها، بات صناعة اميركية متقنة الجودة ولأن الضحية يتمثل بجلاده، في اللاوعي وبمقته في الوعي، فإن ما نعيشه الان من انحطاط ثقافي لا يعدو كونه نتاج تمثلنا بـ «السوبرمان».
بين لوبيه الفرنسي و«هيروشيما الاميركية» و«الخلافة العثمانية» و«الطموح الى الخلافة من قبل فاروق»، و«العلمانية التركية التي لم تنفع أوروبيا» يعود العرب الان الى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، لكن بفارق ان الولايات المتحدة الاميركية التي اعلنت في الخامس من اغسطس عام 1914 حيادها في الحرب تلك باتت الآن اللاعب الاول في الملعب العربي، وتكفلت بابن بلفور بالرعاية والحماية وغض الطرف عن المجازر التي يرتكبها الثور الاسرائيلي.
التاريخ هو العلم الاول الذي يجب على العرب ان يستفيدوا منه لان الفرصة لا تسنح دائما ولن يتكرر لوي لوبيه على مستوى العالم، ليصدر عفوا لعدم وجود المكان المناسب لوضع المقصلة، فالواضح تماما ان المقصلة جهزت والعرب لا ينفكون عن تهيئة المكان المناسب لها وهم يكررون حكاية العربي الذي حمل كتاب قطع رأسه وأوصله الى الخليفة بيديه.