في أواخر يوليو (تموز) الماضي، مع انتهاء المؤتمر الترشيحي الوطني للحزب الديمقراطي الأميركي، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» مقالة للكاتب ريتشارد كوهين علق فيها على شعارات الديمقراطيين في حملة الانتخابات الرئاسية تحت عنوان «الاتجاه الخطأ في الدفاع عن الصواب».
ولقد تضمنت المقالة بضع حقائق، بيد أنها جاءت مرفقة بنظرة خطيرة لا يتنبه لها الا نحن العرب، الذين باتوا «مكسر العصا» السهل لكل من هب ودب...
فكوهين انتقد اثارة المرشح الديمقراطي جون كيري، غير مرة، مسألة استعداء ادارة الرئيس جورج بوش الحلفاء الأوروبيين ابان تحضيرها لغزو العراق. وجوهر انتقاده ان المواطن الأميركي لا يكترث بما يقوله العالم عنه وعن أميركا اذا كان مقتنعاً بانه على صواب، وبالتالي فان رضى الدول الأخرى عن السياسة الأميركية أو سخطها عنها، آخر هم للأميركيين شعباً وساسة.
هذا الكلام رغم مضمون الغطرسة والاستكبار ـ حسب المصطلح الخميني ـ فيه... صحيح جداً وواقعي جداً. فكثرة حتى من أولئك الذين يسعدون بأن يصنفوا أنفسهم «أصدقاء» لواشنطن يدركون في قرارة انفسهم ان لا صداقة ترجى بين القوي والضعيف، وجل ما في الأمر ان ثمة التقاء مصالح، وان منطق «العين لا تقاوم المخرز» مفيد جداً في سياسة البقاء على قيد الحياة.
ويذهب كوهين في تعليقه فيقول ان غزو العراق كان سياسة خاطئة في حد ذاتها «لأن الحرب (التي عقبته) غير ضرورية ولا تبشر بنهاية منظورة... لا لأن السياسة الخارجية يجب ان تخضع لمعايير الفرنسيين والألمان أو حتى البريطانيين».
ولكن لكي تصل الرسالة بوضوح أكبر الى القارئ قرر المستر كوهين الذهاب أبعد في الايضاح، فقال «ان استطلاعات واستبيانات لا حصر لها تفيدنا بأن أميركا مكروهة في منطقة الشرق الأوسط ولكن هذا لا يعني ان السياسة الأميركية هناك ليست السياسة الصائبة الصحيحة. ان قلة ضئيلة من الساسة الأميركيين ليس منها (جون) كيري تدافع عن خيار التخلي عن دعم اسرائيل مع ان مثل هذا الخيار سيجعل العم سام أكثر شعبية في المنطقة. وهكذا اذا كان للأميركيين المفاضلة بين إما ان يكونوا على حق أو ان يكونوا محبوبين فمعظمهم سيقول نفضل ان نكون على حق»!!
من له الحق في الحكم حول ما اذا كانت السياسة الاميركية ازاء الشرق الأوسط محقّة أم لا؟
أليس لأبناء الشرق الأوسط كلمة تقال في هذا الأمر الذي يمس حاضرهم ومستقبلهم؟
المستر كوهين، بالمناسبة ليبرالي لا يحسب اطلاقاً في خانة «المحافظين الجدد»، ولا يكتب في مطبوعاتهم بل في «واشنطن بوست» الرصينة المعتدلة. الا انه مع هذا يسير على درب «المحافظين الجدد» في الموضوع الوحيد الذي يتوقع أي انسان عاقل ونزيه ان يوجد فيه نوع من الفصل بين ما يشكل «مصلحة أميركية» و«مصلحة اسرائيلية».
ان المعضلة مع اولئك الذين يرفضون التفكير بامكانية حدوث تعارض ـ ولو كان تعارضاً عابراً ـ بين المصلحة الاميركية والمصلحة الاسرائيلية، اصرارهم على حصر الرؤية السياسية الأميركية عبر ثقب الباب الاسرائيلي، واستنباطهم المفردات والتعاريف والتفاسير ومنظومات القيم لأميركا تمهيداً لاستخدامها ضد خصومهم هم... الذين ليسوا بالضرورة خصومها هي.
كلنا نذكر كيف صدم المواطن الأميركي باعتداءات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وكان أول رد فعل له التساؤل «لماذا يكرهوننا؟».
ذلك السؤال البريء من الاف المدنيين المفجوعين الذين هزتهم الجريمة البشعة خنق في المهد، وحوّله اختصاصيو التضليل الى تغييب العنصر الأساس في التناقض الحاصل بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والاسلامي. فمئات المقالات وعشرات البرامج التلفزيونية كتبها هؤلاء واعدّوها لابعاد اي شبهة بدور اسرائيل في توليد مشاعر المرارة والعداء حيال واشنطن على امتداد العالمين العربي والاسلامي. ومن ثم انتقل هؤلاء من حالة الدفاع الى حالة الهجوم التي نراها اليوم في مختلف مناطق هذين العالمين.
ان العقلاء، وهم كثر في العالمين العربي والاسلامي، يعرفون جيداً ان الأصولية المتطرفة العمياء مرض قاتل، لكنهم يؤمنون أيضاً بأن من حق المريض الوثوق أولاً بسلامة نية الطبيب المعالج... والتأكد من ان ما يصفه لهم دواء شاف لا سم زعاف.