أمضيتُ الأيام العشرة الماضية في حالة تأملٍ وتتبع ٍ حثيثٍ لما يتصدّر أهمّ الجرائد ونشرات الأخبار العربية وما يتلقاه المشاهد العادي الذي لا يتمكن من الحصول على مصادر بديلة، أو على الأقلّ مصادر ترفد وتوضّح ما يقرأه و يشاهده في بلداننا العربية، وتوصلت إلى الاستنتاج أنّ وسائل الإعلام العربية بمجملها تتلقى الأخبار من وكالات الأنباء دون أن تكلـّف نفسها حتى عناء ترتيب الخبر حسب أولوية المواطن العربي أو حسب رؤية المواطن العربي لذاته وصورته عن نفسه وحقوقه بدلاً من رؤية الآخرين له وانقضاضهم على أوطانه وتراثه واغتصابهم لأرضه وهويته. ففي كلّ يوم تصلنا أخبار شخصيات لا نعلم ما إذا كانت موجودة فعلاً لأنها أصبحت شخصياتٍ خرافية ًكالزرقاوي وابن لادن وأبو حفص يتم تصويرها وكأنها قادرة على ضرب شمال الكرة الأرضية وجنوبها والتفوّق على آخر ما أنتجه العقل البشري من علم وتكنولوجيا! وبغضّ النظر عن دقة أو خطأ المعلومات المتدفقة عن هذه الشخصيات فما الذي يعني المواطن العربي بهذه الأخبار التي تتصدّر الصفحات الأولى في الجرائد العربية بينما يوضع خبر امرأة فلسطينية اضطرت إلى الولادة على معبر رفح مما يمثّل قمّة الإهانة لكل امرأة عربية وكل زوجةٍ وأمّ في العالم في الصفحات الداخلية للجرائد العربية. كما تبحث عن تقرير الإيسكوا والذي احتوى إحصائيات مرعبةً عن عدد أشجار الزيتون التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع والتي تمثّل بحد ذاتها كارثةً بيئيةً واقتصادية وإنسانية كما ساق إحصائيات بعدد المنازل التي دمرها الاحتلال والأطفال الذين استشهدوا والنساء اللواتي اعتقلن والشباب المقاوم المؤمن الذي يقضي في سجون الاحتلال، فلا تجد لهذا التقرير أثراً إلا في عمودٍ صغيرٍ في صفحة داخلية يذكر التقرير مجرد ذكر دون أن يتناول بالتفصيل جرائم الاحتلال الإسرائيلي بينما تناول الإعلاميون والمثقفون العرب تقرير التنمية البشرية على مدى سنوات ليستشهدوا به على تخلـّف المرأة العربية وتخلـّف الاقتصاد العربي وزيادة عدد الباحثين عن عمل وما إلى هنالك من توصيف كان القصد منه وضع الإصبع على الجرح وإذ به يتحوّل إلى مادة للتشهير بالعرب والعروبة والبرهان على أن العرب غير قادرين على توجيه دفة مركب حياتهم وأنه لا بدّ من التدخل في شؤونهم كي يواكبوا الحداثة والتقدم!!
وإذا ما هجرت الجريدة وحاولت مراقبة الأخبار على شاشةٍ ناطقةٍ بالعربية تقرأ مقتل أربعة ناشطين فلسطينيين) وتكتشف بعد أن تقرأ النيويورك تايمز أنهم أطفال في عمر الورود استشهدوا في عملية اغتيال بدم ٍ باردٍ ضمن حرب إبادة تستهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه ودياره واستقدام هؤلاء من أميركا الشمالية وفرنسا إلى أرض ٍ ليست أرضهم كي يبنوا المستعمرات ويمتلكوا بيارات البرتقال والزيتون بينما تحاول المرأة الفلسطينية المقاومِة الإمساك بأرضها العزيزة الغالية ولكنّ جنود الاحتلال يرمون بها بعيداً عن الأرض والديار وتجرف بعدهم جرافات الحقد أشجارها وتربتها الخصبة ليأتي المستعمرون ويحتلوا هذه الأرض. وتراقب أخبار العراق حيث يتحول الشعب العراقي إلى أرقام أيضاً فترى أنّ عشرين قتلوا في الموصل وثلاثين في الفلوجة ولا تلحظ اسماً أو انساناً إلا حين يكون المقتول ذا جنسية أميركية أو أجنبية حينذاك فقط تتم أنسنة الضحية ليشعر المشاهد أن حياة ً إنسانية ً غالية ً قد زهقت. وعليك أن تكون دؤوباً ومتابعاً كي تطـّلع على ما يجري لمدينة بابل من نهبٍ مستمر لآثارها ولتعلم أن وزير الثقافة العراقي لا يتمكن من الوصول إلى داخل المعسكر الاميركي حيث عمليات الحفر و التخريب والسرقة لمدينة بابل وموقع أور والمواقع الآثارية في ذي قار ونينوى والمثنىّ والقادسية حيث تؤكد الأخبار سقوط بعض الأسوار وسقف في قصر الملك نبوخذ نصر الذي بنى وعمّر بابل بعد الملك حمورابي. كما عليك أن تكون مهتماً ودؤوباً لتسمع من وزير التعليم العالي العراقي حجم التخريب والنهب والحرائق التي أُضرمت في المكتبات الجامعية العراقية والعلماء العراقيون والأساتذة والأطباء الذين قـُتِلوا أو خـُطفوا أو تمّ تسفيرهم خارج بلدهم إلى جهاتٍ مجهولةٍ. ولا بدّ من القراءة بالانكليزية كي تتمكن من الاطلاع على حقيقة أن مغادرة بول بريمر العراق لا تعني أن آثار الاحتلال قد زالت فقد كتبت جريدة اللوس أنجلز تايمز تقول إنّ الأوامر المائة التي تركها بول بريمر في العراق تضمن احتكار الولايات المتحدة للاقتصاد العراقي دون أي فائدةٍ تذكر للشعب العراقي مما يسمح للشركات الأجنبية بشراء كلّ الشركات العراقية وأن تقوم بكلّ الأعمال دون أن توظف عراقيين وأن ترسل كافة أموالها خارج العراق وألا تخضع للمحاكم العراقية حتى في حال القتل أو ارتكاب كارثةٍ بيئيةٍ كما تسمح للبنوك الأجنبية بشراء 50 % من البنوك العراقية وأن هذه الأوامر تغيّر القوانين العراقية وفي هذا خرقٌ لقواعد لاهاي لعام (1907) التي وقعت عليها وصادقتها الولايات المتحدة. و تقول انتونيا جوهاز كاتبة المقال إن أوامر بريمر غير اخلاقية وغير قانونية ويجب إلغاؤها للسماح للعراقيين أن يتحكموا بمستقبلهم السياسي والإقتصادي.
ثمّ تطـّلع على خبر أن الأمين العام أعطى الحكومة السودانية ثلاثين يوماً لوقف عنف الميلشيا العربية كما أسموها في المنطقة الغربية لدارفور ونتساءل لماذا لا تعطى إسرائيل أي وقتٍ لوقف حرب الإبادة التي ترتكبها يومياً بحقّ الشعب الفلسطيني الذي يبحث عن الأمن و السلم و الأمان في أرض آبائه وأجداده، ولماذا لم تأخذ الأمم المتحدة باقتراحات فرض عقوباتٍ على إسرائيل لإرغامها على تطبيق قرارات الأمم المتحدة كما يتم في حال أي بلدٍ آخرٍ يستهين بقرارات الأمم المتحدة ورأي الأسرة الدولية. وتقرأ عن استهداف الكنائس في العراق وتتساءل من هم أصحاب المصلحة في زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين الذين عاشوا في تآخ ٍ ومحبةٍ لمئات السنين في أرض تعتبر أنموذجاً للتعايش الإسلامي المسيحي، أوليسوا هم أنفسهم الذين بدأوا يتحدثون عن العراقيين كسنّة وشيعة و أكراد؟؟ و تقرأ عن ثلاثة عشر شخصاً اعتقلوا في بريطانيا وتكتشف بعد ذلك أنهم جميعاً مسلمون ذو تاريخ ٍ محترم ٍ و أنهم بريطانيون محترمون ومخلصون لبلدهم ولا تسمع بنداءات مجلس العموم البريطاني لإلغاء قانون الإرهاب الذي يستهدف المسلمين و يتنصل من التزامات مهمة تتعلق بحقوق الإنسان كما لا تسمع بالمقالات التي تكتب اليوم في الغرب لتستنكر ما يتعرض له المسلمون في الغرب من حربٍ إرهابيةٍ ضدهم كدين وهوية.
وتتساءل بعد كلّ هذا وذاك كم تبعد فلسطين عن العالم وكم يبعد العراق؟؟ لماذا تحمل إليك وسائل الإعلام أخباراً لا علاقة لها بالأمور الهامة والمصيرية على أرض الواقع بل تشغلك بأوهام ونظريات وضعها أعداء هذه المنطقة وأعداء هذه الأمة في حرب تتخذ شكلها الواضح تدريجياً بأنها حرب على العراق وفلسطين وحرب على العرب في أوروبا و الولايات المتحدة وعلى الثقافة والهوية. لقد أصبحت فلسطين والجولان بعيدة جداً عن أنظار الرأي العام العالمي بعد أن عمدت القوات الصهيونية على قتل الصحفيين ونشطاء السلام وتهميش جسد راشيل كوري لدبّ الرعب في قلوب من تساوره نفسه القدوم إلى الاراضي الفلسطينية المحتلة للوقوف على حقيقة ما يحدث. و بهذا ضمنت الصهيونية تعتيماً إعلامياً كاملا ً على الجرائم التي ترتكبها يومياً بحق الشعب الفلسطيني.
إنّ ما يحدث اليوم هو حرب إبادة في بيت حانون وجباليا ورام الله وجنين ورفح، حرب إبادة لشعب أصلي واستقدام مستعمرين مكانه وما يحدث في أوروبا وأميركا هو محاكم تفتيش ضدّ العرب والمسلمين بحجة مكافحة الإرهاب وما الاستنفار في الولايات المتحدة وايطاليا وغيرها تحسباً لهجمات إرهابية سوى ترجمة لخطط مدبّرة لاستهداف العرب والمسلمين بطريقةٍ عنصريةٍ لا يمكن أن يسكت عنها العالم لو استهدفت أي شعبٍ آخر. وإلا ّ كيف تعتبر الدول الأوروبية اقتلاع شجرة زيتون جريمة وكارثة بيئية ولا أحد يتحرك لتجريف أكثر من مليون شجرة زيتون في الضفة و القطاع وتجريف آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية الخصبة.
إن معظم ما تقرأه اليوم في الإعلام العربي وما تشاهده يصبّ في خدمة الترويج للحملة التي تستهدف العرب مسلمين ومسيحيين- في ديارهم و في المغترب- وما نحتاج إليه ليس منع بثّ تليفزيون المنار في فرنسا بل إطلاق فضائيات وجرائد عربية تتحدث عن العرب والهوية العربية والحياة العربية من مرجعية عربية تدق ناقوس الخطر لما يعتري آثارنا و هويتنا وصورتنا في الغرب. فهذه المنطقة تشكل جوهرة للعالم في الحضارات و الأديان و التعايش والتاريخ والإبداع والمساهمات الفكرية الخلاقة. واستنتاجي الأخير هو أننا يجب أن نبدأ بصياغة إعلام يعبّر عن قضايانا ومرجعياتنا وحقوقنا وهويتنا ومن ثمّ الانطلاق به إلى الساحة العالمية بعد أن نشكّـل مرجعية لجمهور عربي أصبح اليوم ضحية ً لإعلامٍ يستهدف وجودنا ويمكث في عقر دارنا وغرف جلوسنا.