للمسألة العراقية أوجه متعددة‏,‏ بعضها يخص العراق والعراقيين الذين عليهم أن يبحثوا عن صيغة أخري لبناء بلدهم من جديد بعد أن تم تدميره من نظام شمولي بالغ القسوة خاض بهم أربع حروب كبري داخلية وإقليمية وعالمية خلال فترة تقل عن أربعة عقود‏.‏ وبعضها يخص إقليم الخليج والشرق الأوسط حيث إن العراق جزء من المعادلات والتوازنات الاستراتيجية والحضارية للمنطقة‏,‏ وعندما يتعرض للاحتلال الأمريكي‏,‏ أو تتغير سماته الداخلية من حيث التوجهات والقدرات‏,‏ فإن المنطقة كلها تتعرض لتغيرات أخري للموازنة والمعادلة وإعادة ترتيب الأوضاع‏.‏ وبعضها يخص العالم‏,‏ فالعراق دولة بترولية هامة‏,‏ وفي داخلها يوجد تجمع عسكري لأكثر من ثلاثين دولة جاءت استجابة للضغوط الأمريكية‏,‏ أو جاءت لمراضاة الولايات المتحدة‏.‏ والمهم أن كل هذه الأوجه لا تجعل المسألة العراقية معقدة فقط‏,‏ ولكنها تجعلها من صميم السياسة الإقليمية والدولية التي لا يمكن تجاهلها من كل القوي الإقليمية الرئيسية بما فيها مصر‏.‏

وببساطة شديدة فإن مصر لا تستطيع أن تقف مكتوفة اليدين أمام ما يجري في المسألة العراقية كما عبر عن ذلك كثير من الكتاب والسياسيين‏,‏ لأنها مالم تصل إلي المسألة العراقية‏,‏ فإن المسألة العراقية سوف تصل إليها‏.‏ وما تقوله صحف كثيرة مصرية وغير مصرية‏,‏ وكتاب مرموقون وغير مرموقين أنه لا ينبغي لمصر التورط فيما يجري في العراق‏,‏ وكذلك في غزة‏,‏ هو دعوة للسلبية والتخلي عن حماية المصالح المصرية القومية‏.‏ ومن المدهش أن هؤلاء الذين يتباكون الآن خوفا من التورط كانوا هم أول من كانوا طالبون مصر بالحركة والفعل وفتح الحدود وقبول الأنفاق التي تقتحم أراضينا‏,‏ أي ذلك النوع من الحركة الذي يقود إلي التهلكة وبئس المصير‏.‏

وللدول في العموم ثلاثة أنواع من المصالح أولها نوع يتعلق بالسمعة والمكانة‏,‏ وهي مصالح في العادة ليست ملموسة‏,‏ ولكن تأثيرها المعنوي والسياسي بلا حدود‏.‏ ومصر هي بلد المقر لجامعة الدول العربية‏,‏ وهي الدولة التي شاركت في عمليات تحرير معظم الدول العربية‏,‏ كما أن مكانتها الثقافية والسياسية لا تباري من المحيط إلي الخليج‏.‏ وخلال العقود الثلاثة الماضية كانت مصر جزءا لا يتجزأ من أمن الخليج‏,‏ وقد فعلت ذلك حينما ناصرت العراق والنظام العراقي في حربه ضد إيران‏,‏ وهو الذي كان قد خرج لتوه من مؤتمر لعزلة مصر عن الجامعة العربية‏,‏ وفتح عليها النار في منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة عدم الانحياز وحتي منظمة الوحدة الإفريقية‏.‏ وفعلت ذلك عندما ناصرت دول الخليج لاستخلاص حرية الكويت من الاحتلال العراقي‏,‏ كما فعلت ذلك عندما عارضت الغزو الأمريكي للعراق‏,‏ وتعاونت مع الدول الأوروبية وبقية دول العالم من أجل استصدار القرارات الدولية التي تسمح بتحقيق الانسحاب الأمريكي من العراق حال استقرار الأوضاع في البلد الشقيق‏.‏

المصلحة المصرية هنا تقضي بعدم إهدار التراث المصري في التعامل مع المسألة العراقية خلال مراحلها المختلفة‏,‏ وبدون تشكيل ثقل إقليمي عربي تقوده مصر والسعودية داخل العراق‏,‏ فإننا نكون قد سلمنا بأن المسألة العراقية هي مسألة تخص الولايات المتحدة وحلفاءها ومعهم إيران وتركيا وإسرائيل‏.‏ ولعلنا نتذكر أن هذا الدور المصري ـ السعودي المشترك هو الذي أنقذ الكويت ليس فقط من الاحتلال العراقي‏,‏ وإنما أيضا من الاحتلال الأمريكي‏.‏ وإذا كان بعض العرب من أصحاب التفكير السقيم يعتقدون أن الولايات المتحدة تريد الاحتلال الدائم للعراق‏,‏ فقد كانت الكويت لا تقل ثروة بترولية ومادية عن العراق‏,‏ كما أن شعبها لم يكن أبدا من الكارهين لأمريكا‏.‏ ومع ذلك فإن مشاركة قوات عربية في عملية تحرير الكويت‏,‏ واستعدادهم بعدها من خلال مجلس التعاون الخليجي لتبني القضية الكويتية وأمن الخليج‏,‏ كل ذلك جعل عملية الانسحاب واستعادة الكويت لاستقلاله مسألة حتمية مهما تكن الرغبات والأمنيات التي تدور في أذهان أمريكا‏.‏

النوع الثاني من المصالح هو المصالح الاستراتيجية‏,‏ وهي الخاصة بتوازن القوي الإقليمي‏,‏ والذي علي أساسه يتم رصد التهديدات المختلفة للأمن القومي‏.‏ ولا شك أن العراق كان وسيظل جزءا هاما من معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط‏,‏ وعندما انهار تماما‏,‏ وضاعت قوته العسكرية‏,‏ وتفككت عراه السياسة‏,‏ فإن فراغا استراتيجيا هائلا تولد في المنطقة‏,‏ تحاول قوي كثيرة الآن اللعب به وتشكيله بحيث يشكل رصيدا مستقبليا لها‏.‏ فإيران تريد عراقا تميل فيه الكفة ليس نحو الشيعة فقط وإنما في اتجاه تيارات أصولية تدور في الفلك الإيراني‏,‏ وتركيا تريد منع الأكراد من الحصول علي كل ما يماثل الكيان السياسي المستقل‏,‏ وإسرائيل تريد انتهاء الجبهة الشرقية إلي الأبد‏.‏ وباختصار فإن هذه القوي‏,‏ وغيرها‏,‏ تتواجد في الساحة العراقية بأشكال شتي وتريد إعادة تشكيلها من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث تكون إضافة لميزانها وليس عبئا عليه‏.‏

وسط هذه اللعبة للكراسي الموسيقية الإقليمية اعتمادا علي وجود فراغ عراقي لا يمكن لمصر أن تترك اللعبة علي حالها لآخرين يتحركون فيها ويعيدون تشكيل المنطقة علي هواهم وأهوائهم‏.‏ ولا يناسب مصالحنا الاستراتيجية كثيرا أن يكون محدد تحركاتنا السياسية عما إذا كان ذلك سوف يساعد جورج بوش علي الفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أم لا‏,‏ لأنه من ناحية فإن أوضاع منطقتنا هي واحد من جوانب الانتخابات الأمريكية وليس كل جوانبها‏,‏ ومن ناحية أخري فإن مصالحنا ومصالح العراق تخلق لنا جداول زمنية لا تتعلق بغرام بعضنا بإسقاط بوش في الانتخابات بدلا من إنقاذ الشعب العراقي‏.‏

ونتيجة ذلك كله فإن المصالح الاستراتيجية المصرية تحتم العمل من جانب علي تحقيق الجلاء للقوات الأمريكية من العراق‏,‏ لأن ذلك كان ولا يزال سببا في حالة الفراغ الاستراتيجي في العراق‏.‏ ومن جانب آخر أن يكون في العراق حكومة تحرص علي المصالح العربية بجوار الحفاظ علي استقلال العراق وموقعه ومكانته علي الساحة العربية والإقليمية‏,‏ بحيث يضيف إلي قوي الاعتدال والإصلاح في المنطقة ولا يخصم منها‏.‏ والحقيقة أن الهدف الاستراتيجي الاول مفهوم وعليه اتفاق في الساحة العربية والمصرية‏,‏ وبقي توفير الظروف المواتية التي تسمح به‏,‏ ولكن الصعوبة كل الصعوبة تأتي من الهدف الثاني‏.‏ فهناك قوي مصرية وعربية متعددة تدعو إلي التفرقة بين المقاومة الوطنية وعصابات النهب والقتل علي أن نؤيد الأولي ونستنكر الثانية‏.‏ ولكن هؤلاء لا يقولون لنا أبدا من هم هؤلاء ومن هم هؤلاء حتي نعرف الطيب من الخبيث‏,‏ وماذا تريد جماعات المقاومة للعراق من نظام سياسي وإقليمي مستقبلي؟ ومن في العراق يؤيد هذه الجماعات؟ وما هو موقف الطوائف العراقية المختلفة منها؟‏.‏

وبصراحة كاملة فإن الخيار في العراق ليس صعبا‏,‏ فهناك الجماعة الحالية في الحكم والتي قبلت بها المنظمات الدولية المختلفة‏,‏ وتعامل معها العالم علي أنها الحكومة الشرعية في العراق‏.‏ وهناك الجماعات البعثية التي لم تقدم نقدا حقيقيا لفترة حكمها السابق للعراق‏,‏ والجماعات الاصولية الإرهابية التي انفتحت علي عمليات القتل الجماعي للعراقيين دون تمييز‏.‏ وبصراحة كاملة فإن بعضا من كتابنا يختار عراقا يحكمه جماعة الجهاد والتوحيد‏,‏ والمجموعات الأخري المتحالفة معها التي تسن السيوف لقتل المسلمين والعرب والشيعة والأكراد والمسيحيين‏.‏ فالمسألة لم يعد فيها اختيار كبير بعد البيانات التي أطلقتها هذه الجماعات بعد تفجيرها لخمس كنائس لشركاء التاريخ والوطن‏.‏

النوع الثالث يتعلق بالمصالح المادية المباشرة من تجارة واستثمارات وعلاقات إنسانية وثقافية مختلفة‏.‏ وهذه العلاقات كانت كبيرة بالفعل بين العراق ومصر في عصور مختلفة‏,‏ وفي وقت من الأوقات تعدي عدد المصريين في العراق المليون نسمة‏.‏ هذه الأوضاع لن تزدهر مرة أخري ما لم ينتصر العراق علي الإرهاب‏,‏ ولا أظن مهما تكن إعلانات المقاومة التي ينشرها بعض كتابنا أنه من مصلحة مصر أن يحكم العراق أبو مصعب الزرقاوي أو غيره من الإرهابيين‏.‏ لقد دفعت مصر ثمنا غاليا في الماضي لوقوفها إلي جانب هذه النوعية من المقاومة في أفغانستان‏,‏ وسكتنا علي نظام حكم وحشي‏,‏ وراح بعض من كتابنا يزورون ويحاولون تشجيعنا علي الفهم والتفاهم مع نظام سياسي واجتماعي متحجر‏,‏ وكانت النتيجة أن قام هذا النظام بتصدير الإرهابيين إلي مصر بكل الأشكال‏.‏ وباختصار لا يوجد مصلحة لمصر من أي نوع أن يحكم العراق نظام آخر لا يختلف عن نظام صدام حسين‏,‏ وربما سيكون أكثر بشاعة‏,‏ ولكن المصلحة سوف تكون حينما نراهن علي النظام الذي يحقق استقرار العراق‏,‏ واستقرار المنطقة معا‏.‏