قد يكون البحث عن يساريين كأشخاص وكأفراد اصبح هذه الأيام أكثر جدوي من البحث عن اليسار كتيارات او كتنظيمات. فبعد سقوط مؤسسة الحزب الجماهيري من الحياة السياسية العربية لم يتبق الا الحديث عن شخصيات تحمل اسماءها الخاصة، وربما أمكن تعيين بعض علائم اليسار في أقوالها أو افعالها. هذا لا يمنع من وجود تجمعات هنا او هناك، أو شراذم تطلق علي نفسها بعض الصفات الموصية بميول او توجهات ذات رنين علي علاقة ما ببعض الأفكار (التقدمية). هذه الظاهرة لا تنفرد بها مجتمعاتنا العربية وحدها، بل ربما بدأت اصلا من الساحات الغربية. فاختفاء الاتحاد السوفييتي الفجائي من المشهد العالمي الموصوف بالثوري، وانحلال معسكر العالم الثالث، وما صاحبهما من زوال او ضمور الاحزاب الشيوعية في معظم دول العالم، كل هذا التحول التاريخي الكوني سحب الارضية الموضوعية لما كان يسمي بالعمل الثوري ذي الطابع الجماهيري. حتي لفظة الجمهور اصبحت ذات معني مختلف. هنالك قاموس كامل من المصطلحات والتعريفات كان متداولاً علي صعيد المعمورة، اختفت كلماته من التخاطب العام. لكن الحجة الدفاعية ضد هذه الظاهرة، والتي ما زال يرددها خطاب يساروي متناثر هنا او هناك، تتمسك بالقول ان انقضاء المؤسسة الثورية لا يفترض زوال الاسباب التاريخية والآفات الاجتماعية التي تعاني منها معظم شعوب الأرض. بل علي العكس فان المشهد السياسي العالمي امسي متخماً بكل انواع الكوارث والنكبات التي تتفوق بفظاعاتها الجديدة علي سابقاتها التي حركت عصر الايديولوجيات وشكلت لها مصداقيتها لدي معظم الطلائع المثقفة في مختلف المجتمعات، لكن المشكلة الراهنة هي في احوال الاستعصاء المعقدة التي تواجه هذه الطلائع المعاصرة في مأسسة الاستيعاب التكويني ومحاولة ابتكار البني التنظيمية الحاضنة لبذور الأفكار الجديدة التي شرعت كثير من العقول المبدعة في التقاطها وصياغتها النظرية علي الأقل. لكن ثمة انقطاعا متناميا بين الريادة الفكرية والاستقطاب الاجتماعي المطلوب حولها وهذا الانقطاع تستثمره النزعات الشعبوية لصالحها، فتختطف التحشيد الجماهيري وراء طقوسها. وقد تتخذ بعض هذه النزعات طابعا نضالياً، يستحوذ علي قوي التغيير، ولكن بدون شعاراته وادواته الاصلية. كما هو الوضع السائد اجمالاً في الوطن العربي والعالم الثالث. بينما يبدو الغرب الاوروبي ان يسارويته العريقة المتنوعة قد وحدت تركيبها الأعلي في تغذية وتفعيل التكامل ما بين الديمقراطية والمدنية. وفي مجال هذا التفعيل تتجدد كذلك اطروحات الاختلاف والتنافس بين اليمين واليسار المتناوبين علي الحكم في اكثر دول اوروبا المتقدمة والممسكة خاصة بقيادة الاتحاد الساعي الي ان يكون هو التجسيد المادي والنامي لبراديغم الديمقراطية والمدنية معاً.
فاليسار الأوروبي متعدد الاتجاهات، وما اختفي منه بعد سقوط جدار برلين هي التشكلات المتهمة بالتطرف أو الجذرية، وكان من المفترض أن تعبر عنها الاحزاب الشيوعية. اما الاتجاهات المعتدلة والآخذة بثقافة الاصلاحات بدل الثوريات فما زالت فاعلة رئيسية في مجري الحدث السياسي الغربي سواء كانت في صفوف المعارضة البرلمانية، او احتلت مقاعد الحكم. ومع ذلك لا يمكن لهذا اليسار اللين المسالم (والمهذب)، والحامل لأسماء الاحزاب الاشتراكية والديمقراطية ان يختزل كل اشكال المعارضة الاخري التي تعج بها المجتمعات الغربية. وقد يوصف بعضها بالكهولة وضآلة الشعبية التي تسند اليها خارج المؤسسات الرسمية. انها اضحت اقرب الي برجوازية السلطة منها الي الادوار الطليعية المأمولة منها. الامر الذي يفسر عزلة الظاهرة السياسية نسبيا عن اهتمامات الناس، والانخفاض المستمر في عدد الذاهبين الي صناديق الاقتراع الي درجة تقارب ثلث الاصوات او الاقل منها الممتنعة عن المشاركة الفعلية في انتخاب القيادات النيابية والحاكمة. هذه الحالة السلبية لا تقتصر علي جهود اليسار بل تشمل كذلك اوساط اليمين. ولكن لا يعوض عن هذا التراجع الا فعاليات المجتمع المدني التي امست تقود التطورات الحيوية المباشرة لمختلف الانشطة الانسانية الاخري التي تتنامي وتتشعب فروعها في ظل الرخاء العام، وتستحوذ علي اهتمامات معظم الفئات وتغذيها هي بدورها.
بحيث ان تضاؤل حيز السياسة السياسية بمعناها المتداول، قد افسح المجال امام ظهور السياسات القطاعية لشؤون الثقافة والتربية وازجاء اوقات الفراغ والعطل والتسلية. فالاطمئنان الي المصير العام وتأمين شروط الحياة الكريمة لمختلف فئات المجتمع تقريبا قد اعطيا للديمقراطية مضمونا مدنيا غنيا بكافة الفعاليات والامكانيات المعبرة عن تفتح انسانية الفرد المتمتع باستقلال شخصيته وحريته المكفولة من قــــبل الجماعة.
هنالك اذن بعض احلام اليسار قد حققتها مدنية الغرب بحكم تطوراتها المتراكمة، والتي ينعم بها المجتمع ككل، في الوقت الذي حل فيه الاحتراف السياسي محل التحشيد العقائدي. اذ اصبحت الاحزاب، يمينا ويسارا اشبه بمؤسسات مهنية، والساسة رجال اختصاص وخبرات معينة. والناس في الغرب لا تتابع السياسة الخارجية لدولها الا في حال الازمات الدولية الكبري. هذه الصورة السريعة لوضع اليسار الاوروبي تأتي صورة الحالة اليسارية العربية مناقضة لها تماما. اذ انه ليس ثمة حياة سياسية ما علي مستوي المجتمعات العربية وتطوراتها عبر مرحلة الاستقلالات الوطنية. بل كانت السياسة لديها مشفوطة دائما نحو الاعلي اي ان دولة الاستقلال اقنعت شعبها في البداية انها ستنوب عنه في مختلف شؤونه العامة بما يتطلب منه كذلك ان يسلم دولته هذه مختلف شؤونه الفردية، بدءا من الاعتقادات الي نماذج السلوك التي يجوز له ان يتبعها او ان ينأي عنها. فكان المطلوب دائما وحدة الدولة والمجتمع وراء الاهداف الوطنية والقومية. هذه الوحدة انبتت المجتمع العربي في حالة سديمية لا تسمح بنشوء اية تكوينات متمايزة او مستقلة. فضلا عن ان البلاد العربية بصورة عامة لم تكن لتمتلك اصلا تقاليد حزبية واضحة، ما عدا التجمعات الاولية غير الثابتة التي يغلب علي بعضها طابع القيادة الثقافية، او طابع الانتماء الي الشرائح الفنية او المتنفذة، وذلك منذ عهد الاستعمار الاوروبي خلال النصف الاول من القرن العشرين. لكن هذا النوع من التشكل والتوزع شبه الفئوي او الطبقي الاولي سوف يظل سائدا الي مرحلة ما بعد الاستقلال، هذا بالرغم من التسميات الحزبية التي كانت تطلقها علي نفسها هذه التشكيلات، اما النزعات القومية المتنامية خلال مرحلة الحرب الباردة، فكانت تأبي ان توصف باليسارية وكاد هذا التضييق ينطبق فقط علي الاحزاب الشيوعية واطيافها عندما ازدهرت علي هامش الحزب القومي الممسك بالحكم في البلاد التي صنفت نفسها في معسكر الوحدة العربية والتقدمية او الاشتراكية. ما يسمح بالقول ان التوزع ما بين اليسار واليمين كان ينطبق علي الدول العربية اكثر مما ينطبق علي احزاب مجتمعاتها فالانقسام بين المعسكرين، الرجعي المتهم بالتبعية الي الامبريالية الغربية، والثوري المتفاخر بصداقته مع التيار الاشتراكي العالمي بزعامة الاتحاد السوفييتي أولاً وبدرجات أقل الصين، هذا الانقسام علي مستوي الدول كان هو الأوضح والأقوي تأثيراً علي أخطر الصراعات التي سادت تحولات السياسة العربية خلال نصف قرن هو عمر النهضة الثانية، لكنه كان في الوقت نفسه مجرد انعكاس للانقسام العالمي فما أن انهار هذا الاستقطاب العالمي حتي تبعه بصورة آلية، وليده الانقسام العربي. سقطت سياسة التمحور الحدي بين الرجعية والتقدمية، وصلت مكانها سياسة المحاور الضعيفة، المتنقلة والعابرة. وبدا أن الرجعية هي التي انتصرت ايديولوجياً علي الأقل، وأن التقدمية هي المهزومة والمتراجعة كلياً من أصولية الثورة إلي مجرد دعوات الإصلاح وأهدافه الغامضة والمبعثرة.
أما علي صعيد الدول فلم يبق أمام المنتمي منها سابقاً إلي المعسكر الاشتراكي سوي ابتلاع مختلف مصطلحاته الايديولوجية، وطمس شعاراته، ثم البحث عن أقرب الوسائل لمد الجسور مع المنتصر الأكبر أمريكا زعيمة الامبريالية التاريخية بالأمس، والساعية اليوم وغداً إلي إقامة امبراطوريتها الأحادية.
هكذا لم يعد في الصف الحاكم من يسمي عرب أمريكا لوحدهم، بل أصبح الجميع يتنافس علي التقرب منها. وبعد الحادي عشر من سبتمبر غدا مستقبل النظام العربي الأوحد انتظاراً مأتمياً لنهاية معظم أعضائه واحداً بعد الآخر. في هذه الأجواء الكئيبة ومع عودة الاستعمار والاحتلال المباشر إلي صميم المشرق العربي مغطياً ساحة الخليج وما بين النهرين، ومشعاً حوله بإنذارات الأيام السوداء القادمة علي بقية الأقطار الناجية حتي الآن من الاحتلال، ولكن الساقطة تحت وهج الاستعمار الذي يعم المنطقة، في ظل هذه الظروف البائسة لا أمل لأي تيار سياسي في الإمساك بأية مبادرة قادرة علي توليد حراك اجتماعي في المستنقع العام. إذ لا أمل أساساً في أن تسمح هذه الظروف عينها بتكوين تيارات أو تجمعات سياسية خارج نطاق أحزاب السلطة وأعوانها، فالدعوات الخافتة والمتقطعة للإصلاح فضلاً عن كونها عاجزة عن الطموح لتكوين يسار عربي جديد، سوف تظل عاجزة عن تحريك أي تحشيد جماهيري وراءها. فالحدس العام الذي يستشعره الجمهور الكبير الراكد هو أن الحالة الراهنة هي حالة حرب حقيقية معلنة أو ضمنية تسود العالم العربي من مشرقه إلي مغربه. وإذا كان ثمة من حراك سياسي ما فسيكون نوعاً من القتال في جبهات مفتوحة أو هي في طريقها نحو الصخب المباشر.
الهجوم الأمريكي الصهيوني أنهي عهد الصراعات السياسية، جهة اليمين أو اليسار، ولم يُبق أمام العرب إلا خياراً وحيداً وهو مجرد الدفاع الحربي، وليس المدني، عن مجرد البقاء الخام. فالوحدة الوطنية علي مستوي القطر الواحد ووحدة الموقف السياسي علي المستوي القومي كلتاهما مطلوبتان في لحظة الصراع الحدي المفروض علي الأمة جمعاء. وإذا كان ثمة أدوار موضوعية لليسار العربي الجديد الصاعد فأولها هو ريادة الفعل الوحدوي كوعي جديد متضامن ضد الهجمة الامبراطورية بشتي أشكالها، وأخطرها ولا شك ذلك التصميم علي استئصال الشخصية العربية من جذورها التاريخية، وإجهاض مشروعها النهضوي لمستقبل أجيالها. فالأمركة تبنت استراتيجية الصهيونية القائمة علي استبدال شعب مقيم بشعب آخر مستورد، وهي تهدف إلي تعميمها علي أمة كاملة دون قدرة علي استبدالها بأمة أخري مجلوبة، إلا أنها سوف تعيد صياغة هذه الأمة نفسها بما يجعلها غريبة عن ذاتها ومضادة لشخصيتها الحضارية. والمحاولة لا تزال في البداية وفي طور التجربة. أما الوعي العربي بأبعاد القطيعة الكارثية الآتية فهو المتأخر، ولا يأتي إلا بعد فوات الأوان.