ازمة دارفور قضية سودانية داخلية، وليست قضية قومية عربية. قال ذلك الوزير مصطفى عثمان اسماعيل في القاهرة حيث حضر الاجتماع الطارىء لمجلس الجامعة العربية، على مستوى وزاري، بدعوة من الخرطوم، للبحث في مضاعفات الازمة. وقبل ان تطلب الخرطوم «تعريب» الازمة، كانت «دوّلتها» من خلال اتفاقها مع الامم المتحدة على «خريطة طريق»، وهو اتفاق فرضته الرغبة في امتصاص مفاعيل القرار الدولي الصادر عن مجلس الامن. وقبل التدويل، لجأت الخرطوم الى الاتحاد الافريقي لرعاية مفاوضات مع المتمردين في الخرطوم اولاً، ومن ثم ارسال مراقبين لوقف النار الذي تم التوصل اليه خلال هذه المفاوضات. وفي الغضون، استقبلت الخرطوم مسؤولين من الاتحاد الاوروبي، ومن الدول الاوروبية، واوفدت مبعوثين الى كثير من البلدان. والقضية المركزية في كل هذه التحركات هو السعي الى معالجة الازمة في دارفور.

وفي موازاة ذلك، اتهمت الخرطوم المتمردين في دارفور بأنهم جزء من مؤامرة خططها حزب حسن الترابي، فاعتقلت عدداً من اعضائه، بمن فيه زعيمه. ومن ثم اتهمت «الحركة الشعبية» بزعامة قرنق بتأجيج النزاع. وربطت التمرد ايضا برغبة اريترية في ضرب الاستقرار في البلد وبدعم المتمردين في دارفور والشرق ايضا، وصولاً الى تعزيز القوات على الحدود بين البلدين. وبعد ازمة صامتة مع ليبيا تتعلق ايضاً بدارفور، وجه الاتهام الى المتمردين بزيارات متكررة الى اسرائيل وتنسيق معها.
اي ان نظرية «التعريب» و«الأفرقة» و«التدويل» لنزاع دارفور، ميدانياً وسياسياً، اعتمدتها الحكومة السودانية منذ بداية انفجار الازمة، معتبرة انها السبيل لنسف صدقية المتمردين وتغطية لما حصل، وما يزال يحصل من مجازر، في غرب البلاد.

وعندما اتضح ان هذه النظرية لها موجبات ومترتبات، خصوصاً عندما يتعلق الامر بحماية المدنيين وضمان تأمين وصول مساعدات الاغاثة، وما يقتضيه ذلك من تهديد باحتمال ارسال قوات اجنبية من اجل الضغط على الحكومة السودانية لتنفيذ تعهداتها الانسانية والامنية، عمدت الخرطوم الى إعادة الازمة الى المربع الداخلي. لتصبح الازمة قضية سيادية، تعالج في أطر سودانية داخلية، لم ترَ منها الحكومة السودانية حتى وقت قريب، وربما لا تزال، ان التعامل الامني، عبر الجنجاويد، هو الحل المناسب لها. وعندما اطلقت فكرة المؤتمر القومي في شأنها، استبعدت منه الاطراف السودانية الفاعلة واتهمت قوى سودانية أخرى بالتآمر عليها. فتخلت عن هذه الفكرة الفاشلة لتبدأ مرحلة البحث عن الحل في الخارج.

التدخل الاريتري غير مستبعد ولا الاسرائيلي مستبعد. والاهداف الاميركية في السودان ليست كلها نزيهة. والدول المجاورة للسودان تحاول الاستفادة من الازمة لخدمة مصالحها. كل ذلك صحيح.
وعلى المستوى الداخلي السوداني، ثمة قوى معارضة لن تحزن للمآزق التي قد تجد السلطة فيها نفسها. لا بل قد تعمد الى تعميق هذه المآزق وصولاً الى انهاك السلطة واطاحتها. وليست هذه المواقف سرية. انها علنية وتصدر في بيانات توزع في الخرطوم.

لكن الحكومة، في سعيها الى نفي طبيعة الازمة السياسية المرتبطة بعلاقة الدولة بدارفور، ونفي طبيعة القوى التي ترتكب الانتهاكات والجرائم في الاقليم، تضرب فرص التعامل مع المكونات الفعلية للوضع. ولا يعود ينفع لا التدويل ولا التعريب ولا الافرقة. كما لا تنفع مساعي العودة الى «السودنة».

من المستبعد ان تكون التناقضات والمفارقات في الموقف الرسمي السوداني مرتبطة بسوء فهم للازمة، او بعجز ذاتي عن موجبات معالجتها. وما جرى في الاسابيع الماضية يدفع الى الاعتقاد ان الهدف الحكومي هو ادارة الازمة بما يتيسر من ادوات، بغض النظر عن طبيعتها، ونقلها من مستوى الى آخر، بغض النظر عن الفائدة من ذلك. المهم في الامر الاستمرار بالحركة، بغض النظر عن طبيعة هذه الحركة. لكن الخطر في هذه السياسة انها تتعلق بأرواح الملايين التي لم تستوعب الخرطوم انه من الصعب السكوت عنها، لا دولياً ولا عربياً ولا افريقياً. وتالياً لا يمكن الاستمرار باستغلال مشاعر التضامن والدعم والتحذير من احتلال اجنبي، للابقاء على نهج ادارة الازمة، خدمة لأهداف السلطة في الخرطوم.