التفجيرات التي طالت الكنائس في العراق، الأسبوع الفائت، بشكل متزامن وغير مسبوق، لا تزال موضوع تساؤلات حول فاعليها وأهدافهم. جميع المرجعيات الدينية، المسيحية والإسلامية، والسياسية أدانت هذه الأعمال الأثيمة. وهناك تكهنات حول فاعلي هذا العمل الإجرامي، منها ما يوجه أصابع الاتهام ـ كالحكومة العراقية ـ الى زعيم جماعة "التوحيد والجهاد" الأردني أبو مصعب الزرقاوي.
أياً يكن الفاعلون، نتوقف هنا عند قراءة انعكاسات تلك الأحداث المأسوية على مسيحيي العراق بشكل خاص، مسلطين الضوء على ماضي هؤلاء المسيحيين وحاضرهم وما ينتابهم من هواجس حول مستقبلهم.
مسيحيو عراق اليوم هم ورثة مسيحية شرقية لها تاريخ ناصع تتصل صفحاته الأولى ببدايات المسيحية. التنصر في بلاد ما بين النهرين يعود لتبشير القديس توما الرسول. والكنائس الأولى في شمال الموصل تعود الى القرن الثاني. إلا أن الصفحات الأكثر إشراقاً في هذا التاريخ هي تلك التي كتبت في القرون الأولى للإسلام، خصوصاً في الحقبة العباسية.
المسيحية العراقية هي من التراث السرياني الذي تعرب شيئاً فشيئاً وساهم مساهمة خاصة ومميزة في النهضة الإسلامية العربية، ولا سيما في نقل الثقافة الهلينية الى العرب، وبالتحديد في علوم الفلسفة والطب. فضل سريان ما بين النهرين في نقل الثقافة الهلينية الى السريانية يعود الى بداية القرن السادس حيث ترجم القسط الأكبر من أعمال أرسطو وشروح أعماله. واستمرت حركة النقل هذه حتى أوائل العصر العباسي.
بدأت طلائع الترجمة الى العربية في مستهل القرن التاسع، فانكب المسيحيون السريان على نقل هذه الآثار الى العربية من السريانية، إلا أنهم ما لبثوا أن نقحوا هذه الترجمات مستندين الى الأصول الإغريقية.
وعندما أسَّس الخليفة العباسي المأمون، في العام 830، بيت الحكمة في بغداد أوكل إدارته الى الفارسي سهل بن هارون، وكان الطبيب النسطوري يوحنا بن ماسويه المترجم الأساسي هناك في تلك الحقبة. وعند موت هذا الأخير تولى تلميذه حنين بن اسحق إدارة مدرسة الترجمة.
إلا أن الكنيسة النسطورية التي قطعت العلاقات مع كنائس العالم الروماني في القرن الخامس، فقدت على مر الزمن عدداً كبيراً من مؤمنيها انتموا الى الكثلكة ولا سيما أثناء القرون الأربعة الأخيرة. واليوم، ما بقي من هذه الكنيسة الأصل يسمى الكنيسة الآشورية المشرقية، ومعظم أعضائها (130 ألفاً) في أميركا وكندا واستراليا، والباقون (50 ألفاً) في العراق.
القسم الأكبر من مسيحيي العراق اليوم هم من الكلدان الكاثوليك. أما باقي المسيحيين فهم أرثوذكس من طوائف واتنيات مختلفة، وعددهم نحو 120 ألفاً، الى بضعة آلاف من الإنجيليين والانغليكان وغيرهم... بالتالي فإن عدد المسيحيين اليوم في العراق يشكل نحو ثلاثة في المئة من السكان، من أصل 26 مليون عراقي معظمهم من المسلمين الشيعة والسنة.
أما أسباب تضاؤل عددهم فهي عديدة أهمها إغراءات القوى الأوروبية (خصوصاً البريطانية)، ولا سيما في العام 1919 (لجنة كنغ ـ كرين) لحملهم على المطالبة بحكم ذاتي بحماية تلك القوى. وكان الآشوريون أشدهم حماسة لتلك الإغراءات. فعندما تخلى حماتهم عنهم، حلت بهم الكارثة في العام 1933، فتهجر القسم الأكبر منهم الى أميركا.
أما الكلدان فقد اختاروا، بوجه الإجمال، الولاء للوطن العراقي وحفظوا أنفسهم من انفجار المشاعر ضد الأقليات المشكوك في وطنيتها. لكن هؤلاء انتقلت أكثريتهم الساحقة، خلال الأعوام الثلاثين الماضية، من معقلها التاريخي في شمال العراق (كردستان) الى مدن الوسط والجنوب. وانتقالهم هذا الى المدن تسبب بغربة نسبية. وعندما وقعت حرب الخليج الأولى والثانية والحصار المفروض على العراق اشتدت إغراءات الهجرة.
يذكر جوزيف يعقوب، المؤرخ والأستاذ في جامعة ليون الفرنسية "ان 350 ألفاً هاجروا من العراق منذ العام 1961، أي وقت الثورة الكردية، ثم تابعوا مسيرة الهجرة بحيث أنهم كانوا في العام 1961 نحو المليون، وراحت الهجرة تستنزف أعدادهم (70 ألفاً في ديترويت). وتفاقمت الهجرة مع بداية الحصار على العراق في العام 1990 حيث هاجر نحو 250 ألفاً من المسيحيين".
أما مع بداية الحرب الأميركية على العراق وحتى اليوم فإن الاستنزاف الديموغرافي ما زال قائماً. الهجرة المكثفة منذ اندلاع الحرب الأخيرة تتمركز في سوريا. فقد ذكر مسيحيون عراقيون يعيشون في دمشق أن أعداداً صغيرة لكن ثابتة من مسيحيي العراق ينتقلون الى سوريا. وأشار بعضم الى أن نحو عشرة آلاف مسيحي عراقي يعيشون حالياً في سوريا وصل تسعون في المئة منهم عقب الحرب. ونشرت صحيفة "النيويورك تايمز"، في عددها الصادر في 5 آب الجاري، مقالاً عن هجرة مسيحيي العراق وذكرت، على لسان المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين، أن نحو أربعة آلاف أسرة عراقية سجلت بصفة "لاجئين" في سوريا. وقالت الصحيفة إن مسيحيي العراق ينزحون أيضاً الى الأردن ولبنان، إلا أن سوريا هي "المحطة المفضلة" لأنها في رأي مسؤول في مكتب المفوضية السامية، أقل كلفة في المعيشة، ونظراً الى طبائعها الثقافية المشتركة مع العراق. كما أن سوريا تمنح رعايا الدول العربية الأخرى تأشيرات دخول مجاناً. وأضاف: "إن سوريا هي الخيار الأسهل لأناس في حال اجتماعية معدومة للغاية".
فإذا كانت تفجيرات الكنائس الأخيرة مؤشراً الى دفع مسيحيي العراق الى الهجرة حتى الاستنزاف فإن خلو العراق من مسيحييه ـ على ضآلة عددهم ـ سيشكل نكسة كبيرة في التعايش الإسلامي ـ المسيحي وفي حوار الحضارات والثقافات والأديان. وليس من عاقل يتمنى حدوث مثل هذه الكارثة.