ربيع جابر: الاضطراب الذي يخترق بلادنا, هل يفضي الى أدب جديد؟ من قبل نكبة 1948, منذ تصدع الامبراطورية العثمانية وكوارث الحرب الكبرى, والبلاد العربية يعبرها صخب وعنف. ما الذي يتبدل الآن؟ هل نقف على عتبة زمن جديد؟ نهر الوقت يجري, والأشياء في تحوّل مستمر. مع حروب, أو بلا حروب, لا تسكن الحياة لحظة, ولا يكف العالم عن التقلب. لكن لحظة الحرب تكثيف تراجيدي فظيع لهذا الاضطراب الانساني. في القرن السابع قبل الميلاد, أنشد هوميروس أبيات "الإلياذة". مع الحرب بدأت الإلياذة. لكن "الملحمة" ليست حرباً فقط: علينا ان ننتبه الى مسرحها. من البيت الاول الى البيت الاخير نحن على حافة البحر, تحت أسوار طروادة, على الساحل التركي الآن, الى الشمال من إزمير. المحاربون اليونان (الاغريق) لا يخوضون هذه الحرب لا على برّ اليونان, ولا بين جزر ايجه, بل وراء البحر: هناك, في الشرق, حيث لم يذهبوا من قبل. ليست الإلياذة حرباً فقط. انها رحلة اكتشاف, ودرب الى عالم آخر. عند نهاية القرن السادس عشر يكتشف التاريخ الرواية الحديثة الأولى: يكتشفها اولاً في رأس جندي اسباني قُطعت ذراعه في معركة بحرية شرق المتوسط. ويكتشفها بعد ذلك في النص المكتوب: "دون كيشوت" (1604).

قُطعت ذراع سرفانتس في معركة ليبانتو سنة 1571: معركة حاسمة في تاريخ البحار والصراع بين الغرب والشرق. ومعركة حاسمة في حياة الرجل. كان في الرابعة والعشرين من عمره. ولم تكن المعركة نهاية أحزانه. بعد اربعة اعوام, سنة 1575, أسره القراصنة البربر وحملوه مغلولاً بالحديد الى الجزائر. الرجل الاسباني المقطوع الذراع بقي هنا, في شمال افريقيا, خمس سنوات. هل نستطيع الآن - في صيف 2004 - ان نتخيل حياته سجيناً في ذلك الزمن البعيد؟ هل تعلّم العربية في سجنه؟ يخبرنا سرفانتس في "دون كيشوت" انه ينقل الرواية كاملة عن مخطوط عربي عثر عليه بالصدفة ذات يوم في سوق طليطلة. يقول ان المخطوط الّفه باللغة العربية السيد حميد بن نجلي. لماذا لا نصدق سرفانتس؟

*بين عالمين
يحيا دون كيشوت بين عالمين. سرفانتس الذي عاش اسيراً بين غرباء في عالم غريب يعرف هذا الاحساس. كان في سجنه يأكل خبزاً يابساً اسود, يشرب ماء غير نظيف, وينظر من كوة عالية الى زرقة سماء الجزائر. تهوي الشمس ويحل الظلام ثم تشعشع حشرات بلون الثلج. ينتبه - حار الرأس من الطعام القليل والهواء القليل - انه لا ينظر الى حشرات بلون ثلوج جبال اسبانيا. ينتبه انه ينظر الى نجوم! في العزلة اللانهائية, في الظلام, بينما الاصوات العربية تأتي خافتة من البيوت وراء الرمل, كان يسترخي مجوف الصدر, ملقياً ظهره الى وراء, فتسحبه الذكريات الى عالم قديم: يرجع الى زمن الطفولة البائد ويتذكر قصصاً قرأها في بلدته. يتذكر روايات الفروسية والمغامرات بين سهول خضراء تعبرها أنهار بيضاء عريضة: هذه اسبانيا التي ضاعت من بين اصابعه, كما يضيع عمره في هذا الحبس. يتذكر حكايات الفرسان التي قرأها قبل ان يركب البحر, وقبل معركة ليبانتو (حين كان ما زال يذراعين). يتساءل لماذا لم يقرأ يوماً قصة الرجل الذي يقرأ كل تلك الروايات؟ يريد ان يقرأ مثل هذه الرواية. رجل يقرأ روايات كل حياته فتغيب الحدود داخل رأسه, وتتساقط الحيطان. يعبر بيسر من عالم الواقع الى عالم الخيال. يفتح عينيه فلا يرى انه في حبس بل في غرفة تنيرها الشموع. لماذا لا يُعطى الانسان ذلك؟

*دروب المخيلة
مثل دون كيشوت وصاحبه سرفانتس, عاش ستيفنسون بين عالمين. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, بينما ينام على سرير كبير في بيت في لندن, رأى رجلاً يلتفت خائفاً الى خلف. كان رجلاً غريب الجسم, ثيابه فضفاضة, وخطوته ثقيلة كخطوة حيوان مفترس. تقلب ستيفنسون في نومه العميق (أكل شواء قبل ان ينام) فأظلم المنام لحظة, غاب نور مصابيح الغاز تماماً, واختفى الرجل الغريب, المتوحش الخطوة. اختفى الرجل لحظة ثم ظهر امام باب أحمر عند زاوية الشارع. طارد ستيفنسون الرجل الخيالي الى وراء الباب: رآه يشرب دواء من قارورة زجاج, ورأى جسمه يكبر, يملأ ثيابه, وظهره يستقيم, والتوحش يغادره!

كتب ستيفنسون (1850-1894) في احدى رسائله ان رواية "دكتور جاكل ومستر هايد" أعطيت له في منام. روى ان اقزاماً خياليين (كالاقزام في قصص الاخوين غريم) يساعدونه في تأليف رواياته. ألّف ستيفنسون قصصه شاباً, ومات قبل ان يبلغ الخامسة والاربعين. جاء من عائلة مهندسين رفعت منارات على طول الساحل الانكليزي. أراد دوماً ان يؤلف تاريخاً لهؤلاء الاسلاف يحفظهم من النسيان ويحفظ عالمهم القديم: عالم البحر والسفن والانوار التي تدل البشر الى برّ الامان. هل حفط ستيفنسون اسلافه من النسيان؟ لندن - المتاهة الحجر الحمراء المضاءة بنور مصابيح الغاز - محفوظة في ادب ستيفنسون. لكن هل هي لندن حقيقية؟ هل رآها بعينيه ماشياً في نور الشمس الضعيف؟ أم رآها في المنام؟

*يوميات كافكا
ستيفنسون ليس تولستوي. يبدأ ستيفنسون من المخيلة ثم يغزو العالم الواقعي. تولستوي يذهب في الاتجاه المعاكس. يقرأ سيرة نابليون بونابرت وسيرة القيصر الشاب الكسندر ويتخيل الرجلين في غرفة واحدة. يستعيد قصصاً سمعها من اهله واصحابه ويتخيل موسكو تشتعل فيها النار. يرى الجنود الفرنسيين يتراجعون, عبر سهوب الجليد والموت, عائدين الى باريس. يبدأ تولستوي من الواقع (لكن هل التاريخ واقعي؟) ثم يفتح الواقع على الخيال. بونابرت لا يكفي ليصنع رواية. الرجل الذي محا خريطة اوروبا وأعاد رسمها يبدو ضئيل الحجم في مخيلة تولستوي. نظرة بونابرت المظلمة الى العالم لا تصنع رواية. في القرن العشرين جاء هتلر ليكرر معركة واترلو (بورخيس: "الآخر") مشوهاً التاريخ بأصابعه القاسية: لكن هتلر, مثل بونابرت, لا يكفي ليصنع احدى روايات تولستوي. يبدأ تولستوي من الواقع ثم يترك الخيال يأخذه الى مكان آخر: هكذا يظهر بطرس, ثم تظهر ناتاليا. هكذا يظهر الأمير أندريه, وهكذا ترتفع قبب موسكو البارقة. ينشد هوميروس في "الإلياذة" حرباً كاملة ورجالاً لا يسقطون قتلى إلا بعد حياة بالغة الثراء. كل حياة هي حياة بالغة الثراء. وكل حياة هي حياة فقيرة. في لحظة الموت يعض الاغريقي التراب, والظلمة تغشى عينيه. بينما يسقط مطعوناً برمح, او مبقوراً بسيف, أو منقوراً بسهم, يخبرنا هوميروس سيرة حياته كاملة, وحياة أهله. يصف بيته وقطعانه وسلاحه وجزيرته وأصحابه: يروي هوميروس قصة اغريقي يهوي أمامنا, ثم يتركه جثة هامدة, وينتقل الى اغريقي آخر. هذا هو العالم. تولستوي, بعد سلفه هوميروس بـ26 قرناً, يبدو أرقّ احساساً, وأقل بطشاً. "الحرب والسلم" تعجّ بالمعارك, لكنها مع ذلك لا توغل في القسوة كما تفعل "الإلياذة". تولستوي, بنزعته المسيحية, لا يملك قدرات هوميروس ابن أزمنة ما قبل الميلاد. هذا لا يعني ان الكونت الروسي لم يكن شجاعاً. اذا أردت ان تختبر جرأة تولستوي انظر الى حياة بطرس الداخلية او الى منام واحد تراه آنا كارنينا وعشيقها الضابط في اليوم ذاته. شجاعة تولستوي في استكشاف الذات البشرية تأخذنا الى كاتب آخر هو فرانز كافكا.

هذا النمسوي الألماني الشاب, الذي سيموت شاباً, اعتاد ان يقرأ تولستوي ويُسطر بقلم الحبر على الصفحات. أعجبه كوتوزوف قائد الجيوش الروسية, ووصف تولستوي البديع لكسله الظاهري. رجل يميل الى البدانة, بليد الحركة, ولا يحب الهجوم. قائد عساكر ولا يحب اصدار الاوامر! لماذا يصدر اوامر؟ يؤمن كوتوزوف بالروح الروسية, يؤمن بأن الجيش يقود نفسه من دون قائد!

المؤرخون ابناء هذا القرن يرسمون صورة اخرى لكوتوزوف. صورة القائد الذي جرّ على الروس الكوارث, وتسبب على نحو ما في احراق موسكو. من يقرأ كتب التاريخ؟ لا أحد. من يقرأ الآن كتاباً أكاديمياً عن الحرب الفرنسية - الروسية في الربع الاول من القرن التاسع عشر؟ لا احد. في المقابل ما زال تولستوي يعثر على قراء. وكوتوزوف - بفضل مخيلة الكونت - سيظل قائداً نادراً تتمثل فيه الروح الروسية.

*أرض الغسق
تحرك تولستوي بين عالمي الواقع والخيال بسهولة. غاص في أعماق شخصية مثل بطرس او الأمير اندريه (خصوصاً بعد المعارك), كما غاص في أعماق الجماعات (الجيش الفرنسي يزحف على موسكو المدينة الموعودة, كأنها الواحة في قلب صحراء, تلك المدينة الشرقية العظيمة, المملوءة طعاماً وعمارات ونساء جميلات وشراباً). كافكا ذهب أبعد على هذه الطريق: لم يقبل ان يعيش بين عالمين, بل أقام على الحافة, حيث الواقع خيالي والواقع خيالي. هنا, في أرض الغسق اللانهائي, جلس كافكا طوال حياته القصيرة يكتب ويقرأ ويتأمل.

مثل شكسبير, ومثل بسّوا, عاش كافكا حياته كأنه في منام. ادب كافكا منام. وكذلك حياته. يكفي ان تقرأ يومياته ليخرج الشاب الابيض النحيل امامنا, بوجهه الطفولي, ونظرته الحادة الذكاء. ما يراه في المنام يتحول قصصاً وروايات. روايات تكتمل, وأخرى تبقى ناقصة. في آب (اغسطس) 1914, بينما العالم تعصف به حرب كبرى, يبدأ كافكا في تأليف ثلاث روايات معاً. هل كان يحيا خارج العالم؟ لكنه - كل الوقت - يتابع ما يحدث هنا وهناك, يسجل اخبار معارك كما يسجل احاديث مع اهل ومعارف وأصدقاء. وكل هذا لا يشغله عن عزلته وعن ادبه وعن حياته الداخلية. كأنه ليس رجلاً واحداً! كأنه مجموعة اشخاص تسكن جسماً واحداً. كيف يكتب ويمشي ويأكل ويذهب الى المكتب ويمارس عمله على اكمل وجه ثم ينام ولا ينام ويقضي الليل ساهراً ويكتب ولا يكتب وبعد ذلك نرى انه انهى قصة, وها هو ينهي قصة اخرى, والآن يفكر في روايتين جديدتين!

هذا رجل يحرق الوقت حرقاً. الا يدفع الثمن؟ انه يحرق اعصابه, أليس كذلك؟ يكتب في يومياته انه في كل ما يكتب لا يصف إلا لحظة الموت: الرجل بينما يموت, أو يشرف على الموت. لكنه اذا اراد ان يكتب ذلك وجد نفسه يكتب حياة كاملة. حياة الانسان. أليس هذا ما فعله هوميروس؟ أليس هذا ما صنعه الادب دائماً؟ ان يخبر عن الانسان, وعن الوقت الذي يقتحم الانسان اقتحاماً ويأخذه الى نهايته.

*ثراء الحياة
يستعيد كافكا مفارقات زينون الإيلي. يعلم ان المسافة بين نقطتين تُقطع في وقتٍ محدد, لكنها ايضاً لا تُقطع ابداً. وعلى الطريق بين نقطة وأخرى نرى اشياء لا تُعد ونعرف اموراً لا تحصى ونجهل غيرها. كيف نكتب كل ما نراه؟ وهل يكفي هذا؟ علينا ايضاً ان نسجل ما عجزنا عن رؤيته, وما اردنا ان نبصره ولم نبصره ابداً. الواقع يكفي ولا يكفي معاً. شوبنهاور عرف هذا. ما لا تعثر عليه في الواقع يُبدعه الخيال.

الحياة تحوي كل هذا: افراحنا وأحزاننا والشجر والحيوان والسماء والمكاتب والبيوت ووسائل الاتصال والكتب والسيارات والطعام والشراب والخبز... هذا كاتالوغ اعتباطي. يمكن أياً منا ان يصنف القوائم كما يشاء. مجلدات الموسوعة البريطانية لا تتسع إلا لجزء ضئيل من معارف هذا العالم. اما العالم فيحوي عدداً غير محدود من نسخ الموسوعة البريطانية. كيف نختصر الحياة؟ هذا غير ممكن. مع ذلك تحاول الرواية ان تختصر الحياة. هل تنجح في طموحها العالي؟ الأدب ماكر. الإلياذة حفظت لنا عالماً كاملاً. هل نقــول ان تولستوي فعل ذلك ايضاً؟ وكافكا ماذا اعطانا؟ قارئ يوميات كافكا يخشى ان يضيع بين سطورها, ان ينسى من هو, وان يتحول الى الكاتب المسلول الذي دوّن هذه اليوميات.

*ما يعرفه كالفينو
كالفينو الشديد الحساسية, المصقول الحواس, لاحظ باكراً ان الادب لا يعكس هذا العالم - عالمنا - بمقدار ما يعكس عالماً آخر يوازي العالم الذي نعرفه. لا احد يرى الحياة - حياته, او اي حياة - كما يراها الآخر. ما تقرأه الآن قد يعني لك شيئاً وقد لا يعني اي شيء. من أنت؟ اي واحد من الإثنين؟ لا ترفع نظرتك عن هذه الكلمات. او ارفع نظرتك. لك ان تفعل ما تريد. في جميع الاحوال تذكر: ما تفعله يبدل جزءاً ضئيلاً من تاريخ عالمك. هل هذا دقيق؟ لعل الامر لا يُبدل شيئاً, لا في حياتك, ولا في اي حياة اخرى. هل عندك جواب؟ بالتأكيد. لكن ربما اردت ان تبقى ساكتاً. وربما تكلمت او كتبت (مع من تتكلم اصلاً؟ انت وحدك الآن, تقرأ هذه الجريدة, هذه الكلمات التي تُباغتك ولا تباغتك). لك ان تتابع القراءة او تتوقف. خيار صغير. قرار بسيط, تتخذ مثله مرات - بوعي او بلا وعي - كل يوم. هذه القرارات جزء من شخصيتك. من اسلوب تعاطيك مع نفسك ومع هذا العالم. انت ادرى بما تريد. لماذا؟ لأن الآخر لا يعرفك - لا يعرف عالمك الداخلي - كما تعرف انت نفسك.

كالفينو انتبه باكراً ان الواحد لا يكتب عن العالم. كل واحد يكتب عن عالمه. عن عالم يتطابق مع هذا العالم الواقعي ويختلف عنه. لا نكتب اذاً الا عن عوالم خيالية. عوالم بشرية متوازية تبدأ من الواقع دائماً ثم تضيف اليه او تسرق منه. في جميع الاحوال تبدله. بينما نكتب يتبدل العالم. لا يبقى هو نفسه. نضيف اليه قطعة جديدة: نضيف اليه رواية, وفي قلب الرواية عالم خيالي كامل, يعكس العالم او لا يعكسه. الادب غريب.

*المطلوب
عند منتصف القرن العشرين يقفل كالفينو مجلداً عليه اسم كافكا ثم يبدأ بتأليف قصة تدور في القرن الثامن عشر. يكتب عن درع يتحرك ويتكلم بلا فارس في جوفه. ثم يرمي ما كتبه في سل المهملات, ويكتب عن رجل ايطالي تشطره قنبلة تركية الى نصفين, نصف خير ونصف شرير. ماذا يصنع كالفينو؟ يكرر ستيفنسون الذي كرر احدى اقدم قصص "العهد القديم"؟ يفر كالفينو الى قرون النهضة, يستعين بملحمة ايطالية, ويسترجع شارلمان. يبحث عن سلامه الداخلي في تاريخ يبدله كما يشاء. ينجز ذلك بدقة. اذا اردت الآن ان تكتب عن لندن القرن التاسع عشر وشوارعها البائدة (هل بادت حقاً؟) عليك ألا تكتفي بالبريتانيكا وروايات شارلز ديكنز برسومها واللوحات الزيتية العائدة الى تلك الحقبة. هذا كله (البحث والتنقيب والقراءة واعادة القراءة) مطلوب. مطلوب وضروري وأساس لكنه لا يكفي.

بعد كل ذلك عليك ان تغمض عينيك وان تقضي اياماً طويلة (اسابيع وشهوراً وسنوات) تتأمل في كل هذه المعرفة: رويداً رويداً - بينما تحيا - تتحول الاشياء في اعماقك, بعضها يمتزج ببعض, وتبدأ المدن في الظهور, مدينة تلو اخرى. تظهر البيوت والشوارع, وترى البشر, وتسمع ما يقولون. يُخيل اليك عندئذٍ انك تحيا في كتاب: انت وهؤلاء معاً, كلكم ابناء عالم واحد خيالي.

*بلاد العجائب
لويس كارول ينزل في حفرة او يدخل مرآة فيبلغ عالماً موازياً لهذا العالم. هاروكي موراكامي يعثر في جمجمة على بلدة مسورة يخترقها نهرٌ, وعلى ضفة النهر مكتبة, وفي قلب المكتبة امرأة حزينة تشرب الشاي, تحوك صوفاً مثل بنلوب, وتنتظر وصوله. باتريك ساسكند يخفي نفسه في غرفة خائفاً من الخارج (من العالم الحديث الصاخب بمتاجره, وسياراته وحمامات ميونيخ وباريس تغطي الساحات بالقاذورات) او يهرب الى القرن الثامن عشر ويتحول قاتلاً. عنده خيار آخر: ان يكتب. هكذا يُخرج الطاقة العارمة المحبوسة في الاعضاء. لكن ساسكند لم ينشر رواية منذ 12 سنة. 12 سنة وهو ساكت, في اي عالم من العوالم الخيالية المتوازية يقيم الآن؟ في عالم معتمٍ؟ الانسان غريب. أُعطي ساسكند المجد والشهرة مع روايته الاولى. فابتعد عن كل ذلك. هرمان ملفل حرم من المجد عند منتصف القرن التاسع عشر فعاش ما بقي من حياته حزيناً متروكاً محبطاً. موبي ديك الذي يعطينا معرفة ورهبة ومتعة لم يعطه إلا شعوراً بالهزيمة طوال اربعة عقود. ملفل, مثل الحوت الابيض, محفوظ في قلب هذا العالم. انه هنا وليس هنا في اللحظة ذاتها. مثل الملك لير, مثل يوليوس قيصر, مثل الليدي مكبث, مثل الكولونيل بوينديا, ومثل لوكاس وكلاوس في روايات اغوتا كريستوف. اين الحد الفاصل بين العالم الواقعي والعوالم الخيالية؟ يهرب غاو كسينغيان من بكين الى ارياف الصين, ولا تلبث رحلة الهروب الطويلة ان تصل به الى الحي اللاتيني في باريس. يكتب وصفاً سريعاً للحي اللاتيني في "انجيل رجل واحد" (9199) ويصف جلوسه في مقهى مع صديق. يجلس هنا - بعيداً من سور الصين - ويتذكر حياته هناك: يتذكر عالماً باقياً في الاعماق, لا يزول. أين كان في تلك اللحظة؟ في باريس ام في بكين؟ اين هو العالم الواقعي وأين العالم الخيالي؟ هل يمكن ان نفصل بينهما؟ سور الصين العظيم (الذي وصفه كافكا) يشبه كل الاسوار: انه غير حقيقي. غير حقيقي مع ان الرؤساء يتصورون واقفين عليه. غير حقيقي مع ان رائد فضاء رآه مرة من السماء. غير حقيقي لأن ماركو بولو لم يذكره يوماً. وغير حقيقي لأنه سور. كيف يكون السور سوراً اذا عجز عن الفصل بين عالمين؟

لو كان السور حقيقياً لما قرأنا يوماً "جبل الروح". السور غير حقيقي, والبحر غير حقيقي. لو كان البحر حقيقياً لما استطاع عوليس ان ينجو من الغرق والتهلكة مرة تلو اخرى. كل تلك المراكب التي انكسرت, كل هؤلاء البحارة الذين غرقوا, ووحده يبقى على قيد الحياة, ويرجع متنكراً الى ايتاكا؟ لكن عوليس يرجع الى جزيرته. ويرجع راكباً البحر. البحر حقيقي اذاً: البحر المملوء سمكاً, حيث فقد سرفانتس ذراعاً, وحيث غرقت مراكب محمد علي باشا, وحيث غفا كولمبوس على ظهر سفينة تتهادى فرأى - في المنام فقط - انه بلغ قارة جديدة لم يكتشفها قبله احد. البحر حقيقي وخيالي معاً: يكفي ان نتذكر مغامرات السندباد وأسماك المسعودي والغرناطي والقزويني وجزر جلفر التي لم يبلغها انسان. البحر حدّ, والسور حدّ. خط يفصل بين عالمين. خط موجود وغير موجود. قارئ الروايات الحقيقي - مثل كاتب الروايات - لا يرى هذا الخط.