قد يبدو التفكير بإحياء نظرية الأمن القومي نوعاً من العبث إن لم يكن من الحلم الذي يصعب تحقيقه، بعد أن تعرضت فكرة القومية العربية ذاتها إلى حملة تشكيك، وبعد أن أصبح مفهوم الأمن ذاته مختلفاً عليه بين الأنظمة العربية (فعدو بعضها صديق بعضها الآخر)، وقد نهضت في الوطن العربي بشكل قوي أصوات الإثنيات والأعراق تطالب بتميزها القومي عن العرب بعد أن أمضت قروناً في حالة من الانسجام والانصهار الثقافي الكامل في الأمة العربية، ولكن الضعف المزري الذي آلت إليه الأمة قلل من شأنها ومكانتها في نظر المنتمين إليها بالحضارة أو بالحضور، وجعلهم يبحثون عن انتماءاتهم التاريخية القديمة (ولست أنكر عليهم حقهم في الانتماء إلى أعراقهم على ألا يكون في ذلك أي تفكيك لوحدة الأمة العربية أو الدولة القطرية) ولقد كان بعض العرب يرفضون جعل القومية رابطة، ويدعون إلى الرابطة الإسلامية بوصفها أقدر على جمع الأخلاط من القوميات والأمم التي ربطها الإسلام برباطه، وقد أوقعت هذه الرؤية التي أغفلت دور العروبة وقيعة بين دعاة الجامعة العربية، وبين دعاة الجامعة الإسلامية. وبسبب الانهيار المثير الذي آلت إليه الأمة (قومياً) بات لدعاة الجامعة الإسلامية مبرر قوي للقول إن الرابط القومي لم يكن ناجحاً وإن الحل هو في الرباط الإسلامي وحده. وعلى الرغم من إيماني العميق بالروابط الإسلامية إلا أنني أجد هذا الفصل بين الرابطين إضعافاً للأمة التي هي عربية مثلما هي مسلمة.
فأما نظرية الأمن القومي فقد بقيت حبراً على ورق الجامعة العربية مثل كثير من النظريات والمعاهدات والاتفاقيات العربية، ولكن صدورها في عام 1950 بعيد نكبة فلسطين ينبئ عن وعي قومي نكاد نفتقده عند الأنظمة السياسية اليوم، وقد بقي العرب متمسكين بكون أمنهم قومياً (وليس قطرياً) عقوداً، وكانوا في كل وثيقة من وثائق الجامعة يؤكدون على كونهم أمة واحدة فلا يعترض على ذلك أحد منهم. بل إنهم جددوا الوثيقة في 15/ 9/ 1965 في ميثاق التضامن العربي بعد قمة الدار البيضاء 1965 وقد جسدت نكبة يونيو 1967 كون العرب أمة حتى في الهزيمة. فقد ضعفت الأمة جمعاء، مما دعاها إلى أن تحقق نظرية أمنها القومي في حرب أكتوبر1973، ولعلها كانت المرة الوحيدة التي حقق فيها العرب نظريتهم الأمنية القومية في العصر الحديث، حيث ساهم الجميع في الحرب، بعضهم بجيوشه وعدته، وبعضهم الآخر بماله ونفطه، ولئن كانت بعض المشاركات رمزية بالقياس للدور العسكري الضخم لسوريا ولمصر، فإن دور النفط انتقل إلى الأولوية وحقق من أسباب النصر ما جعل الغرب يخشى أن يكرر العرب تجسيد نظريتهم الأمنية على صعيد قومي مرة أخرى.
ويبدو أن من أسباب إصرار الولايات المتحدة على طرح الحلول الفردية والجزئية في عملية السلام بعد حرب أكتوبر هو إنهاء المفهوم القومي عند العرب وإنهاء النظر إليهم على أنهم أمة واحدة، وإخراج قضية فلسطين من كونها محورية ومركزية ومن كونها قضية العرب الكبرى وتحريرها هدف عربي جماعي لا يختلف عربيان حوله. فقد تكثفت الجهود الأميركية وبعض الأوروبية لجعل قضية فلسطين (فلسطينية محضة) تحت راية براقة هي أن (منظمة التحرير ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني)، وقد حملت هذه الراية قمة الرباط عام 1974 وهي القمة التي تجدد فيها الالتزام بنظرية الأمن القومي لكونها وضعت أسساً واضحة للعمل العربي المشترك، وأكدت التزام الأمة جمعاء باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، حيث لم يكن غائباً عن كثيرين من القادة خطورة الإقرار بأن منظمة التحرير هي ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. ولكن هذا الإقرار كان آنذاك انتصاراً للقضية الفلسطينية لكونه يمنح شعبها حضوراً سيادياً، ويبرز الشخصية الفلسطينية السياسية على صعيد دولي، ويخلص الفلسطينيين من تدخل أطراف عربية غير مريحة تفرض وصايتها على القضية، ولكن من أخطاره التي حاولت القمة تجنبها، أن تصير القضية الفلسطينية قطرية، وأن يصير الصراع العربي الصهيوني صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً، وهذا ما حدث للأسف بعد بضع سنوات، حيث ارتاح بعض العرب من الهم الفلسطيني.
ولقد رأى كثيرون في تجزئة الحلول منذ معاهدة كامب ديفيد التي وقعها الرئيس السادات ضربة قاسية لمفهوم الأمن القومي، واعتبروا خروج مصر من حلبة الصراع إنهاء أولياً للنظرية التي فقدت بخروج مصر برهانها الرياضي، فكيف يكون الأمن قومياً والأمة تختلف حول العدو؟. فبعد المعاهدة لم تعد مصر تعتبر إسرائيل عدواً بينما بقيت كل الدول العربية تعتبر إسرائيل عدواً، ومصر ليست قطراً عربياً عادياً، إنها العمود الفقري للأمة والحامل الرئيسي للمسؤولية القومية، وقد رفضت قمة بغداد في مايو 1978 اتفاقية كامب ديفيد ونقلت مقر الجامعة إلى تونس، وعلقت عضوية مصر وحدثت قطيعة محزنة بين مصر والبلدان العربية. ولكن كامب ديفيد لم تلغ يوماً حالة العداء النفسي بين الشعبين المصري والإسرائيلي. فالعرب المصريون لا يستطيعون أن يديروا ظهورهم للقضية الفلسطينية وأن يقولوا نحن استعدنا حقنا وحصلنا على الأمن والسلام مع إسرائيل، وهم يرون ما تفعل إسرائيل التي تتابع إبادة الشعب الفلسطيني وتدمير قدرته على الحياة بل لقد بقي شعب مصر في واجهة المقاومة الشعبية حاملاً الهم الفلسطيني ببعديه القومي والديني، وهذا ما جعل مصر تعود بقوة إلى دورها القومي في عهد الرئيس مبارك، حيث لم تفلح اتفاقية كامب ديفيد في عزل مصر عن مسؤولياتها القومية والإسلامية وإن كانت قد حدَّت من سعة وحيوية وفاعلية هذا الدور.
فأما الضربة القاضية التي أنهت أو كادت تنهي نظرية الأمن القومي فقد جاءت بيد صدام حسين حين غزا الكويت فقصم العمود الفقري للأمن القومي وقدم دليلاً على أن الخطر ليس خارجياً بالضرورة، فقد جاء هذه المرة من داخل الأمة، ومن قائد يقدم نفسه ممثلاً للمشروع القومي.
وقد حاولت الأمة أن تطبق الفقرة الأولى من اتفاقية الدفاع المشترك، وهي إنهاء الخلافات والنزاعات العربية بالطرق السلمية، ولكن صدام حسين لم يستجب لكل الدعوات العربية والدولية، بل أصر على استمراره بغزو الكويت ريثما تنتهي قوات التحالف من التمركز في الأرض العربية (وهذا ما جعل موقفه مريباً كما بدا مريباً في عام 2003 حين رفض التخلي عن الحكم وكان بوسعه لو فعل وسلم السلطة للشعب أن يفقد التحالف مبرراً للغزو). والمهم أن العرب وجدوا أنفسهم مضطرين لتطبيق اتفاقية الدفاع المشترك ولكن ضد عدو داخلي هو عضو مؤسس في الجامعة وهو من الموقعين الأوائل على اتفاقية الدفاع المشترك ولكنه أصبح خطراً على الأمن القومي العربي كله. ثم أطلقت رصاصة الرحمة على مفهوم الأمن القومي في حرب العراق 2003، حين أسقط في يد العرب، وبات من يعلن تعاطفه مع العراق شعباً وأرضاً وعروبة وأكراداً، وإسلاماً ومسيحية يتهم بأنه من أنصار صدام.
والمصيبة الراهنة أن نظرية الأمن القومي التي انهارت بعد هذه الأحداث المفجعة تركت الأقطار العربية بدون غطاء قومي، مما دعا دول مجلس التعاون إلى إنجاز اتفاقية دفاع مشترك خاصة بها في قمة البحرين عام 2000 مشيرة إلى أنها لا تتعارض مع اتفاقية الدفاع المشترك في إطار الجامعة.
وقد حاول المؤتمر الإسلامي أن يعيد صياغة نظرية الأمن إسلامياً، وهذا جهد طيب وينبغي أن يكون سريعاً في وقت تكبر فيه الهجمة على الإسلام، ويخشى فيه المسلمون أن يواجههم خطر سريع كانهيار المسجد الأقصى أو كتوجيه ضربة حمقاء لأماكن مقدسة أخرى. ولو حدثت مثل هذه الأخطار الفاجعة (لا سمح الله) دون رد أو دفاع، لفقد المسلمون مكانتهم بين الأمم، ولكن هل يمكن أن تنجح دول المؤتمر الإسلامي فيما تخفق فيه الأقطار العربية، والعرب أولى بإعادة الحيوية لمفهوم أمنهم ولا سيما أنهم دول المواجهة الرئيسة مع المشروع الصهيوني الذي يشهد ذروة قوته وانتصاراته الكبرى التي تغريه بمزيد من التوسع على حسابهم؟
أعتقد أن المسؤولية تقع في الأولوية على العرب فهم المهددون أولاً، وهم مسؤولون عن الإسلام مسؤولية أدبية أكثر من سواهم (بحكم كون القرآن عربياً والرسول الكريم عربياً وكونهم أول من حمل الرسالة وقد أعزهم الله بها وعليهم أن يثبتوا دائماً أنهم جديرون بحملها). ولئن كان في الأمة من يريد تثبيط الهمم، وإعلان العجز أمام قوى جبارة لا تستطيع الأمة نزالها أو مقاومتها، فإن مفهوم الأمن العربي لا يعني دعوة إلى حرب عالمية شاملة، بل إن أول ما يمكن أن يكون عنصراً مهماً من عناصر الأمن القومي هو التنمية المشتركة الشاملة، وتحقيق التكامل الاقتصادي الذي يضمن للأمة أمناً اقتصادياً يجنبها مخاطر أي حصار يمكن أن يواجه قطراً عربياً أو أية عقوبات يمكن أن تفرض على قطر آخر. والممكن القومي كذلك هو إعداد قوة عربية (على غرار الناتو) والردع بها دون الضرب، ويستلزم ذلك قيام الصناعات العسكرية الاستراتيجية التي لا يمكن أن تنجح بشكل فردي، فهي تحتاج إلى تعاون كبير وإلى تقنية عالية يصعب أن يوفرها قطر بمفرده، ولابد من نسيان التجربة المريرة التي كبد بها صدام حسين أمتنا خسائر ضخمة ولكن هذه الخسائر ستكون أشد وأمر إذا ما بقيت عقدة صدام جاثمة على صدر العمل العربي المشترك. لابد أن نعتبر ما فعله صدام جزءاً من خطر خارجي لبس لبوساً داخلياً ليقدم المبرر والذريعة لقدوم قوات أجنبية من أجل الاستيلاء المباشر على منابع النفط كي لا يتكرر استخدامه ثانية في اتفاقية دفاع مشترك كما حدث عام 73، وكي تكون القوى الأجنبية قادرة على التصدي للإسلام المعتدل، الذي أخفقت حركات التطرف في تشويهه والقضاء عليه، ولكي تتمكن إسرائيل من تحقيق مشروعها التوسعي دون أن يتمكن العرب من صدها.
إن الخطر وحده هو القادر على أن يعيد للأمة وحدتها وأن يلمَّ شملها، فتستعيد شعورها بأهمية وضع استراتيجية عربية موحدة لمواجهة التحديات التي لا تهدد قطراً بعينه وإنما تهدد الأمة جمعاء.
التعليقات