الصين التي أرسلت أول رائد فضاء صيني إلي الفضاء تعدّ حالياً لإرسال رائدة فضاء، وحتّي يتحقق الأمر بدأ برنامج الفضاء الصيني المأهول عملية بحث عن فتيات في المدارس الصينية لإعدادهن لدراسة الطيران وتعلّم قيادة الطائرات والمركبات الفضائية تمهيداً للتحليق عالياً وريادة الفضاء أسوةً بالرجل الصيني.
هذا الخبر الذي وزّعته وكالة الأنباء الصينية شينخوا أعادني إلي موسكو، وإلي تذكّر أول رائدة فضاء في العالم: فالنتينا ترشكوفا، وإلي تلك الليلة البعيدة التي جمعتنا بها قبل أكثر من عشرين عاماً في موسكو التي كانت موئل حركات التحرّر في آسيا، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
في تلك الأيام كان يلتقي في موسكو أكثر من وفد فلسطيني في وقت واحد، من اتحاد المرأة الفلسطينية، واتحاد العمّال، والاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين (رحمه الله) وغيرها من الاتحادات بما في ذلك اتحاد الفلاّحين الفلسطينيين الذي كان يقوده (أبوسليم) شقيق فنّاننا الكبير الشهيد ناجي العلي، ناهيك عن الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وكم كان هذا الاتحاد يحصل علي منح دراسية انحسرت كثيراً بعد انتهاء الاتحاد السوفييتي.
كان أول سفير لفلسطين في موسكو هو العميد أركان حرب محمد الشاعر، وهو عميد بحق وحقيق، وكان أحد الذين بعث بهم سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين وقائدها إلي سوريّة لدراسة العلوم العسكرية قبل حرب الـ48.
أراد الحاج أمين رحمه الله أن يبني قوّات فلسطينية عسكرية تتلقّن الأصول العسكرية ليواجه بها العصابات الصهيونية التي تمتلك الخبرات والسلاح. توجّه عشرات الشباب المتعلمين ليدرسوا في الكليّة العسكرية السورية، لكن النكبة وقعت قبل أن ينهي أولئك الشباب دراستهم، وكان من بينهم العميد محمد الشاعر، والعميد عبد العزيز الوجيه، وعدد من العسكريين الذين لمعوا في الجيش السوري، والذين سرّح بعضهم بعد الوحدة لميولهم الشيوعية، ولكنهم أخذوا مواقع هامة في جيش التحرير الفلسطيني الذي أسسه الأستاذ أحمد الشقيري، ومنهم بهجت عبد الأمين، وجواد عبد الرحيم، ومحمد الحلبي، وهؤلاء أشرفوا علي تأسيس قوّات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير لتكون قوّات فدائية بعد هزيمة حزيران (يونيو)، وسقط منهم في معركة الكرامة 25 شهيداً ولكن تّم التعتيم علي دورهم...
استكمل العميد الشاعر دراسته العسكرية في بلغاريا وحصل علي شهادة الدكتوراه في العلوم العسكرية، وهو من قلّة كتبت في العلم العسكري، وقد كتب عن الحرب الفدائية، وانتقد البيانات المزوّرة والكذب في العمل العسكري، وتصدّي مبكّراً للمسيرة العسكرية المشوّهة وهذا ما جلب عليه غضب القيادة الرسمية.
حقق الدكتور العميد محمد الشاعر حضوراً طيباً في موسكو، ومع ذلك فلم يرق لضيقي الأفق والانتهازيين أن يكون العميد وهو ليس من فتح سفيراً في أهم عاصمة صديقة للفلسطينيين، ولذا كادوا له كثيراً إلي أن رحل بوفاة مثيرة للشكوك، فقد مرض وهو في زيارة لبلغاريا، وهناك حقن بكمية من الدم أدت إلي تدهور حالته الصحيّة ونقل بعدها إلي موسكو حيث اكتشف أنه حقن بدم مصاب بمرض (اليرقان) !...
العميد العسكري الصارم كان ودوداً مع الكتّاب والشعراء والمثقفين لأنه يعتبر نفسه واحداً منهم، فهو مؤلف ومترجم لثمانية عشر كتاباً، وهو يتقن عدّة لغات، ولأنه كذلك فقد كان يعني بالكتّاب والشعراء والفنّانين عند زيارتهم لموسكو، ويستضيفهم في بيته...
في فترة واحدة التقي وفدان من اتحاد المرأة الفلسطينية واتحاد الكتّاب والصحافيين في موسكو، فما كان من العميد الشاعر إلاّ ودعا وفدينا مع عدد من نساء اتحاد المرأة السوفييتية وكتّاب وشعراء من اتحاد الكتّاب السوفييت..وكانت ليلة !...
حضرت أول رائدة فضاء فالنتينا ترشكوفا ومعها ثلاث سيّدات، وكانت ترتدي فستاناً بسيطاً وأنيقاً. طبيعي أنها هي من جذبت أنظارنا فالسيدات الأخريات لم تكن لهن شهرتها، وكانت فالنتينا حاضرة في ذاكرتنا بشكل مثير وجذّاب، فهي الفتاة اليتيمة التي تربّت في الزمن الاشتراكي وتألّقت في سماء العالم دليلاً علي معجزة الاشتراكية وما تفعله بالإنسان من تغيير وتطوير ومنح فرص.
تباري شعراؤنا وشعراؤهم في قراءة القصائد، سمعنا شعر غزل باللغة العربية والروسية، وكانت تعبيرات الوجه وحركة الجسد والأيدي، وتوهّج العيون قد نقلت الكثير من لغة القلب والروح، وسرّ العميد وأسرته المضيافة، وكان لا بدّ من مدّ مأدبة العشاء التي كانت عامرة بالطعام الشرقي اللذيذ...
بعد تبادل الكلمات القصيرة بين الوفود اقترح العميد أن أقول شيئاً وهذا ما فاجأني لأنني لست شاعراً، ولا أنا رئيس الوفد، ولكنه ابتسم بلطف فعرفت ماذا يريد منّي. لقد أراد أن أحكي كلاماً مختلفاً لا رسميّة فيه، كلاماً فيه إمتاع ومؤانسة.
طلبت من الجميع أن ينهمكوا في تناول عشائهم، وأن يتعاملوا معي كحكّاء شرقي. وبعد توقف قصير التفت إلي فالنتينا وقلت لها: سيدتي، أنا مثلك رائد فضاء ولكنني أحلّق بلا طائرة ولا مركبة فضاء، أنا حكّاء شفوي لا أقرأ ولا اكتب وقد أحضرني هؤلاء القوم لأقصّ علي الأصدقاء بعض الحكايات الشرقية لأحلّق بكم معها في الخيال، أسلافي الذين رادوا فضاء العالم بخيالهم حتّي إن أحدهم دفع حياته وهو يهّم بالتحليق بجناحين اخترعهما قبل اكتشاف الطيران، أقصد جدّنا عبّاس بن فرناس...
سألتها هي والسيدات السوفييتيات إن كنّ قد سمعن بشهرزاد فأجبن بالإيجاب، وهنا سرحت بهنّ في أجواء ألف ليلة وليلة، وبعد وصلة توقفت وأبديت حزني لأن الوفد الفلسطيني لم يسمح لي بإحضار ربابتي وحصاني و.. طلبت من ليلي المترجمة الروسية البدينة الحيوية الحضور أن تأكل بعض اللقمات حتي لا تفوتها متعة التلذذ بالطعام الشرقي ففعلت.
رويت كيف أننا كنّا نعيش في مخيمنا قرب أريحا فإذا بوالدي في أحد المساءات يتأمل نجمة بعيدة متوهجة ويسألني:
ـ أتعرف تلك النجمة يا رشاد؟
ثمّ بعد صمت يضيف بشيء من وجد الصوفي:
ـ إنها نجمتنا فالنتينا.. !
أبي لم يكن يتوقّع أن أزور موسكو وأن التقي برفيقته فالنتينا...
في ختام السهرة ونحن نغادر لحظت فالنتينا تهمس في أذن العميد الذي تهلّل وجهه، وسمعته وهو يردد: دا دا (نعم بالروسية)، ثمّ توجه إلي بالكلام وهو يشد علي يدي:
تسأل الرفيقة إن كنت ستكتب ما قلته الليلة، وتطلب منّي إن كتبت أن نترجمه ونرسله لها..وهذا ما حدث بعد شهر من مغادرتنا موسكو.
حالياً لا تلمع فالنتينا في سماء روسيا المحطمة، فثمّة نوع جديد من السيدات في روسيا هنّ عشيقات محدثي النعمة من رجال المافيات الذين يدثّرون أعناقهن بـ(الفـــيزون) والألماس من الثروات المنهوبة، ومن بيع مصانع بناها العمّال علي مدي عقود واستحوذ عليها اللصوص...
- آخر تحديث :
التعليقات