"النفط، النفط، آه النفط يا أحرار... شّب النفط في قلب العراقي نار".. هذا مطلع قصيدة شعبية منشورة في جريدة الاستقلال البغدادية عام 1925.عنوان القصيدة "مناقشة شروط شركات النفط"، ومنها نعرف أن عامة العراقيين وأشهر شعرائهم، مؤلف القصيدة الملاّ عبود الكرخي كان يتوقع ما يحدث الآن قبل أكثر من 80 عاماً.كان يقول: "منابع أميركا أخذت بالنُقصان... وتدريجاً تجّف اعتقدوا يا إخوان... وتبقى بعدها يا صاح بالميدان... منابعنا العراقية ألوف آبار".. هذا الكلام يبرر ادّعاء العراقيين بأنهم "يقرأون الممحي". فنضوب النفط، ليس في أميركا فحسب، بل حتى في "الغوار" السعودي، أكبر منبع نفطي في العالم .هذا هو العامل الجيواستراتيجي الأساسي، الذي يتحكم بالعالم في مطلع القرن 21. وتعتمد جميع النظريات السائدة في هذا الصدد على المفهوم "الفيزيائي" للشكل المحدب للجرس، الذي يرسم تصاعد التدفق النفطي من المنبع وارتفاعه حتى الذروة، ويبدأ بعدها الانحدار. تؤكد ذلك أوضاع نحو 40 ألف بئر نفطي مستكشف في العالم، يقع أكثر من نصفها في منطقة دول الأوبك. حرب العراق حلقة رئيسية في الصراع من أجل التحكم بموارد النفط الناضبة، تتبعها حلقات أخرى قادمة في إيران والسعودية، وغيرها من المواقع في ما تُسميه واشنطن خريطة الإرهاب العالمي.
وأهم سؤال بهذا الصدد طرحه الشاعر الكرخي:
"يجوز، وهل من الإنصاف إحنا نطيعْ
مقابل هالكنوز بقيمه بخسه نبيعْ؟".
لا يجوز قطعاً. والعراقيون لن يبيعوا كنوزهم بخساً، قالوا ذلك في معاركهم الدموية مع قراصنة النفط الأنجلوأميركيين على امتداد القرن العشرين. ويقولونه اليوم في معركتهم الحالية. وهي في واقع الحال معركة الدفاع عن الثروة النفطية، يخوضها العراقيون، ليس فقط من أجل أنفسهم والعرب والمسلمين، بل من أجل العالم. هذا هو سبب وقوف معظم سكان العالم معهم. وحماقة واشنطن ولندن تكمن في الاعتقاد بإمكانية ترهيب وترغيب الأجيال الجديدة من العراقيين، وهي، كما تبين التطورات أشد فتكاً واقتداراً من جيل الملا عبود الكرخي. توقعت ذلك مقالة منشورة هنا في 13 أبريل عام 2003، أي بعد 4 أيام من سقوط بغداد. عرضت المقالة وعنوانها "لماذا الحرب المجرمة على العراق؟" اعتراف باحث أميركي بأن واشنطن حسمت قرار الحرب واتخذته إثر اعتماد الحكومة العراقية عام 2000 عملة اليورو الأوروبية في تعاملاتها النفطية. أول قرار اتخذته واشنطن بعد احتلال بغداد كان ألغى هذا القانون، والقرار الثاني ألغى اتفاقات وعقود العراق النفطية مع الصين وفرنسا والهند وإندونيسيا وروسيا.. إلخ. كلا القرارين انتهاك لقوانين الحرب والاحتلال، وفي تبعاتهما يكمن سر جميع ما حدث وسيحدث، ليس في العراق والمنطقة العربية فحسب، بل في العالم كله. سر ينفق الغزاة الأغبياء ملايين الدولارات لتغطيته بأكاذيب لا نهاية لها. أكذوبة اليوم تدّعي أن ارتفاع أسعار النفط إلى 44 دولارا للبرميل يهدد بأزمة مماثلة لما حدث في أعوام السبعينيات. ومعروف أن القيمة الحقيقية للسعر الحالي لبرميل النفط تقل عن نصف قيمة أسعاره آنذاك.

وفيما يلي بضعة أرقام ترسم ملامح الوضع الجيوستراتيجي العالمي:
النفط يغطي 40 في المائة من الاحتياجات العالمية للطاقة و90 في المائة من الوقود المستخدم في النقل. جميع مقوّمات الحياة الجديدة في العالم، بما فيها الكومبيوتر والهاتف الجوال، يعتمد على طاقة كهربائية يُستخرج معظمها من النفط. العقد القادم سيشهد زيادة في الطلب على النفط تبلغ 70 في المائة، يعود معظمها إلى عملاقين جبارين يدخلان حلبة الصراع حول النفط، هما الصين والهند. وهذه ليست كل الصورة، التي يرسم ملامحها الرئيسية الاقتصاد النفطي العالمي، وتبلغ قيمته من عمليات استكشافه واستخراجه وشحنه ونقله وتصفيته وتحويله إلى طاقة كهربائية 10 ترليونات دولار. لذلك لن تستطيع أي قوة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة التحول السريع عن النفط.

وكما يحدث عادة في السياسة الدولية تتناسب خطورة السر طردياً مع حجم التعمية الإعلامية عليه. فهو لا يُذكر إلاّ نادراً جداً حتى في أكثر الصحف العالمية مناهضة للحرب. صحيفة "الغارديان" البريطانية، على سبيل المثال، التي أصدرت كتبا عدة وأنشأت مواقع إنترنت ضد الحرب لم تتناول الموضوع إلاّ لماماً، كما في مقال منشور نهاية الشهر الماضي بعنوان "الأسباب الحقيقية وراء حرب بوش". كاتب المقال جون تشابمان، الذي عمل للأعوام ما بين 1963 و1996 مساعداً لوزير الخدمة المدنية، يردد حرفياً تقريباً ما جاء في المقال المشار إليه أعلاه: "ليس هناك سوى سببين موثوقين لغزو العراق: السيطرة على النفط والحفاظ على موقع الدولار كعملة احتياطية للعالم". ويسخر تشابمان من كذب رئيس وزراء بلاده، الذي ادّعى أن النفط لو كان السبب الحقيقي لغزو العراق لكان أسهل عقد صفقة حوله مع صدّام. الموظفون المدنيون البريطانيون ليسوا بهذه السذاجة، حسب تشابمان، الذي يعرض دردشتهم في نادي لعب الكريكيت "ماندرينز" Mandarins حول بلوغ النفط البريطاني في بحر الشمال الذروة في عام 1999 وانحداره منذ ذلك الوقت بنسبة السُدس. هذا هو سر تورط لندن في الحرب، التي جعلت شركة النفط البريطانية BP جهة وحيدة غير أميركية تنال حقوق الاستكشاف عن النفط في العراق المحتل.

وأمكر ما في دردشة نادي "الكريكيت"، الذي يضم نخبة موظفي بريطانيا معلوم لقراء هذه الصحيفة، الذين قرأوا هنا قبل أكثر من عام أن اعتماد الدولار كعملة قياسية في أسواق النفط الدولية فرض على سكان العالم دفع الجزية عن الخلل الهيكلي للاقتصاد الأميركي. فالاقتصاد الأميركي، الذي يعاني من عجز مالي أسطوري يراوح، حسب التقديرات المختلفة ما بين 4 و6 ترليونات دولار قائم على طبع مئات المليارات من الدولارات، التي تستخدمها دول العالم لشراء النفط. تتم إعادة تدوير هذه الدولارات النفطية من الدول المنتجة للنفط عبر مستندات الخزانة الأميركية وغيرها من المدخرات الأميركية بالدولار، كالأسهم والعقارات. يعني هذا أن الولايات المتحدة تملك النفط العالمي دون مقابل عن طريق الدولار، الذي لا يكلفها سوى نفقات طبع أوراقه الخضراء.

ولا يكشف تشابمان للعراقيين عن سر عظيم عندما يذكر أن بلادهم تسبح على بحر نفط يقل حجم المستكشف منه عن 10 في المائة. موظفو وزارة النفط في بغداد ينفذون الآن أمر واشنطن بإنفاق 20 مليون دولار من أموال العراقيين لاستكشاف احتياطيات النفط في موقعين قديمين فقط، هما كركوك في الشمال والرميلة في الجنوب. ويحلّ بعد يومين الموعد النهائي لاستلام وزارة النفط عطاءات المقاولتين الخاصتين بذلك. هذا كل عمل الحكومة المؤقتة، التي أوكلت لها واشنطن دور الشرطي وساعي البريد.

ما موقف العراقيين من ذلك؟ الجواب في قصيدة الملا عبود الكرخي، التي طالبت بتحديد مواقع الشركات الأجنبية، وتذكرها بالأسماء، الساعية للحصول على رخص التنقيب عن النفط. لتحقيق ذلك المطلب، الذي يعني تحرير أراضي العراق قاتل العراقيون أكثر من نصف قرن، وأعلنوا عام 1944 الحرب على بريطانيا، وهي آنذاك إمبراطورية عظمى، وانتفضوا ضد جميع الحكومات التي نصّبتها في بغداد، ثم أسقطوا النظام الملكي القائم عام 1958، وسنّوا قانون استعادة أراضي العراق من الشركات النفطية. العراقيون لا يقرأون الممحي فحسب بل يكتبونه أيضاً.