نيويورك ـ أحمد مرسي: مضت مائة عام على يوم مولد الشاعر الشيلي العظيم بابلونيرودا، أحد أهم شعراء العالم في القرن العشرين، يوم الاثنين 12 تموز المنصرم. وبعد مرور ثلاثة عقود على وفاته، لا يزال الشاعر يشغل العالم باستعاداته. وقد تجمع، احتفالاً بهذه المناسبة، عشاق شعره من نيودلهي الى سانتياغو، في موطنه شيلي، للمشاركة في قراءات لاهثة ومناقشات معمقة لأعمال الشاعر الشيوعي الحسي الذي عشق الطبيعة بقدر عشقه للمرأة، والطعام والنبيذ. وتقول كارولين كورييل، في مقال افتتاحي بصحيفة "النيويورك تايمز" (قصيدة غنائية متأخرة الى نيرودا: تشيلي تحاول أن تعقد مصالحة بين الحب والسياسات) "كان نيرودا الذي حاز نوبل في 1971، سفيراً وسياسياً وشغل مقعداً بمجلس الشيوخ ومرشحاً للرئاسة.
وقد انتحل قبل بلوغه العشرين اسماً ينشر تحته كتاباته من كاتب تشيكي، يان نيرودا. وقد حقق شهرته في سن العشرين على أثر صدور مجموعته الشعرية الثانية "عشرون قصيدة حب وأغنية يأس" التي تسربلت غنائيتها بشهوانية أرضية. ولكن نيرودا استخدم الحب والجمال للفت الانتباه الى العدالة الاجتماعية.
ولكن مجاهرة نيرودا بمعتقداته السياسية اليسارية باعدت بينه وبين نظم الحكم الرجعية في تشيلي التي ناصبته العداء. ذلك التراث تأمل حكومة شيلي الراهنة في إهالة التراب عليه ونسيانه الى الأبد، بإحياء ذكرى وتمجيد الشاعر المجيد. وقد فر نيرودا من شيلي في 1948 ليقضي سنوات في المنفى بعد أن انتقد تحول الرئيس غايرييل فيلاديلا الى اليمين في أواخر الأربعينات. وفي هذه الحقبة كتب نيرورا ملحمته (Canto General) "النشيد العمومي"، وهي بمثابة أغنية تشبب في جغرافية وشعوب أميركا الجنوبية.
*حيوات
كان نيرودا، كما يقول ألاستير ريد، عدة شعراء في شاعر واحد، مثلما كان يبدو أنه عاش عدة حيوات. قد كتب سيرته الذاتية في تشكيلة من أشكال الكتابة: مجموعة من المقالات عن طفولته، وقصائد طويلة متوالية أوتوبيوغرافية، Memorial de sla Negra، ومذكراته النثرية الأكثر رسمية، التي كان بصدر وضع لمساته الأخيرة فيها أثناء احتضاره، في 1973. ويتضح بجلاء من هذه اليوميات، المختلفة والمتباينة، أنه عاش منذ سن مبكرة في حالة استغراق مسلوب في كل ما يحيطه، عناصر الطبيعة والكائنات البشرية، وكطفل متوحد. في نفس الوقت، وقع في إسار الشعر وأصبح بالمثل سليب الشعر. ومنذ تلك اللحظة، وحتى وافته المنية، لم يتوقف عن الكتابة أبداً، فقد كانت بالنسبة اليه، مثل التنفس. وقد ذكر أنه كان دائماً يستعرض تجربته في اللغة، واضعاً نفسه في كلمات، مسائلاً نفسه، ومكتشفاً نفسه. وقد خلف نيرودا وراءه فضاء واسعاً من الأنواع الشعرية، تغيرات البحر في حياته عاكسة نفسها في كل تحول جديد في شعره.
شب في جنوب شيلي الممطر، في تيموكو، على حدود الغابات الشاسعة، المشهد الطبيعي الذي ما فتئ يستحضره مرة بعد الأخرى برائحة الغابة المبتلة، وصوت الأمطار الهادرة. وجذوره تضرب في أعماق ذلك المكان، مثلما جاء فضول سفره الذي لا ينضب من لقاءاته المسحورة الأولى بالبحر. وقد لفت تعلقه في مرحلة الطفولة بالشعر انتباه غابرييلا ميسترال، الشاعرة الشيلية التي عينت كناظرة لتيموكو وقد عرفته على شعر وأعمال الكتاب الأوروبيين، وساعدته على الحصول على منحة دراسية لدراسة الأدب الفرنسي في سانتياغو عندما كان في عامه السابع عشر. وفي العاصمة، انتقل من وحدته المستغرقة السابقة الى عقد صداقات حميمة في عالم الفنانين السري، والمناقشات التي تمتد طوال الليل، والعشق الجنسي المحموم، واكتشاف قصائد رامبو وبودلير ورفقة شعراء آخرين. وكان ذلك بمثابة تحول مندفع: وعندما استقبلت مجموعته الثانية "عشرون قصيدة حب وقصيدة يأس" بإثارة وتقريظ، اعتُمد في حرفته البازغة، ولم يكن قد جاوز العشرين. وقد أصبحت قصائد هذه المجموعة، ولا تزال، بمثابة محك الحب الأول، تحفظ عن ظهر القلب في أنحاء أميركا اللاتينية.
وقد أدى هذا النجاح المبكر الى تعيين نيرودا في الإدارة القنصلية الشيلية، وانتدب للعمل في بورما، وسيلان، وجاكاترتا، وسنغافورة، في أولى رحلاته العديدة. وكانت السنوات الخمس التي قضاها خارج شيلي، بعيداً عن لغته وجذوره، فترة وحدة واغتراب متطرفين، ومع ذلك، كان يختزن عن طريق حواسه العجائب والفظائع المحيطة به. وقد أفرز قلق الروح قصائد مجموعته الأولى والثانية Residencias en La Tierra، التي كانت بالنسبة لنيرودا وللشعر الإسباني، مذهلة وجديدة. وقد صبت هذه القصائد تجربته الخاصة في تدفق صور مُلهوس، بعضها سوريالي والبعض الآخر نبوئي، والصوت الذي جعله نيرودا صوته بثقة كان صوت El vate، الرائي، وهو الاسم الذي درج أصدقاؤه على الإشارة اليه.
عاد نيرودا الى شيلي، وانتهى الكابوس وكانت شهرته كشاعر آخذة في الاتساع. الى حد أنه انتدب بعد ذلك للعمل في اسبانيا، حيث انضم بترحيب الى وسط شعراء، من بينهم غارسيا لوركا وميغويل هرنانديز، في أيام الجمهورية المتسارعة. وباندلاع الحرب الأهلية، تداعى هذا العالم. فقد طورد صديقه غارسيا لوركا وقتل رمياً بالرصاص، وكان يرى في كل مكان حوله انكسار اسبانيا. وقد تركت الحرب في نفسه جرحاً لم يندمل. فالأخوة التي ربطت بينه وبين الشعراء الأسبان دمرت، وقد طلب اليه هو نفسه أن يقدم استقالته من عمله القنصلي بسبب تعاطفه الصريح مع الجمهورية. والقصائد التي كتبها في تلك الفترة، مثل "إنني أشرح بضعة أشياء" مريرة في غضبها، وحارة في حزنها.
وبعد عودته الى شيلي، انضم نيرودا الى الحزب الشيوعي، وظل عضواً نشيطاً ومخلصاً حتى نهاية حياته، بالرغم من أنه لم يعدل غرائبيات وجود مشاعره. وفي 1943، حج نيرودا الى ماكخو بيكخو، مدينة قديمة، في أعالي الأنديز. وقد استلهم من هذه التجربة المؤثرة رؤية عمله الشعري التالي، مجموعة عنقودية من القصائد سبر فيها واكتشف كيف أتت أميركا اللاتينية الى الوجود، مستعرضاً جغرافيتها الغرائبية وتاريخها المضطرب، ووقائعها الاجتماعية والسياسية، وحكامها الطغاة، ومظالمها. وقد انتخب نيرودا عضواً بمجلس الشيوخ، وفي 1948، نشر رسالة ينتقد فيها الرئيس غونزاليس فيديلا واضطر الى الاختباء. وأخيراً، وصل الى الأرجنتين عن طريق الأنديز، حيث استضافه وأخفاه كثير من الأصدقاء.
وعندما صدرت مجموعته "Canto General" في 1950، لفتت اهتماماً أوسع من أي عمل آخر سابق، وذلك لصراحتها ولقيمتها الشعرية معاً، وبصفة خاصة متوالية قصائد مرتفعات ماكخو بيكخو "التي اعتبرت بمثابة "شهادة الشاعر الروحية".
وفي السنوات اللاحقة، واصل نيرودا السفر، مرحباً به في كل مكان بصفته شاعر أميركا الأول. وقد أكد ألاستير ريد (1990) أن نيرودا يعتبر، من خلال طبعات شعره الضخمة باللغة الروسية والصينية فقط، ناهيك عن الإسبانية، الشاعر الأكثر ذيوعاً في تاريخ الانسانية.
وفي أوائل الخمسينات، استقر نيرودا أخيراً في آخر مساكنه الشهيرة في Is'a Negra، وهي قرية ساحلية تطل على ساحل المحيط الباسيفي لشيلي.
وعندما انتخب سلفادور اليندي رئيساً لشيلي، في 1970، عين نيرودا سفيراً لشيلي في فرنسا، متوجاً بذلك خدمته الديبلوماسية، واعاده الى بعض أماكنه الأثيرة ورفقة شبابه. كما توج شعره بجائزة نوبل في 1971، وقد أصبحت هذه المناسبة عطلة رسمية في شيلي. وقد اضطر بسبب اعتلال صحته الى تقديم استقالته وعاد الى شيلي في 1973. وبينما كان يرقد في فراش المرض في بيته في إسلانيغرا بلغته أنباء الانقلاب العسكري. وعاش ما يكفيه لكي يشهد مقتل شيلي الوحشي، وطنه الذي ساهم في بنائه وخدمه كشاعر وديبلوماسي وسياسي ورجل دولة وككنز وطني. وفي يوم 23 سبتمبر/بعد الانقلاب بأحد عشر يوماً، توفي في سانتياغو.
منازل من الماضي
تخيفني منازل عشت فيها، أذرع بوصلاتها مفتوحة باتساع، منتظرة، تريد أن تبتلعك وتدفنك في حجراتها، في ذكرياتها. لقد ترمّلت من جانب الكثير من المنازل في سنوات حياتي، وأتذكر كلاً منها بولع. لم أستطع أن أحصيها، ولم أستطع أن أعود لأعيش فيها، لأنني لا أحب عمليات البعث. الفضاء، والزمن، والحياة والنسيان لا تغزو فقط منزلاً لتغزل بيوت ـ عناكب في جميع الأركان، إنها أيضاً تخزن سجلاً لكل شيء حدث في غرف معينة، العشق، والمرض، والبؤس والسعادةالتي لن تحال الى الماضي لكنها تريد أن تواصل الحياة.
ليس هناك أشباح أكثر إثارة للخوف من أشباح الحدائق القديمة.
لقد كتب فيرلين قصيدة كئيبة تبدأ (dans le vieux parc solitaire et glac?) حكم على روحين بالعودة الى حديقتيهما، والماضي المنبعث يلاحقهما ليقتلهما مرة أخرى.
أنا لا أريد أن أرى أشجاراً عرفتني. لقد نمت بعض سنوات معي، لكنها نمت وحدها بعد رحيلي. لأنه لا رجل لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لشجرة. إن كل ما تحتاجه الشجرة هو التربة، والماء والسحب والقمر. الإنسان غير ضروري، ومناخه غريب بالنسبة لحلقات مورفولوجيا شجرة، بالنسبة لفضاء أوراقها وجذورها الحيوي.
ومع ذلك، تأمل تلك الجذور والأغصان أن تنمو في روح أحد. لذلك يُفقد كل شيء بالنسبة للشخص الذي يعود الى حديقة قديمة مهجورة.
لقد أردت مرة واحدة أن أعود الى بيت عشت فيه. وقد حدث هذا في سيلان، بعد انقضاء سنوات عديدة.
لم أتمكن من العثور على البيت. كنت أعرف اسم الحي، ويلاوات، ضاحية تقع بين مدينة كولومبو وماونت لافينيا. لقد أجّرت كابينة متواضعة تطل مباشرة على الشاطئ المدوي الأصداء. لقد تفجرت الشعب المرجانية، أمامي، في شكل ألق فوسفوري بحري ذي نجوم. كانت السفن تعرض الممرات والقنوات التي ينبغي أن تتبعها لتعبر بسلام سلسلة الصخور المزهرة البيضاء. وكان الزبد يندفع على الأفق الأزرق القريب.
ربما قد أتيح لي في ذلك البيت، الذي كان أكثر عزلة من أي بيت عرفته، مزيد من الوقت لكي أعرف نفسي. كنت أحيي نفسي فور نهوضي، وكنت طوال اليوم أطرح على نفسي أسئلة لا نهاية لها. كنت أشعر بالأمن في صحبة نفسي، وهي حالة قلما حققتها. وقد ساعدتني في فهم حركات المحيط المتقد الملحمية، والأعاصيرالهادرة التي كانت تسقط ثمار جوز الهند من النخيل في قصف أخضر صاخب. والمعرفة، المعرفة بالنفس، سبر الذات الطويل، الى جانب الريح والفاكهة والبحر، موجودة في كتابي الصغير Residencia en la tierra، سجل معذب لسبر ـ نفسي. إن الحقيقة هي أنني عشت هناك في أشد حالات الفقر: فقر قنصل يحاول أن يعيش بمرتب 66و166 دولاراً أميركياً لم يتسلمه على الإطلاق.
أن تكون قنصلاً جائعاً، شيء لا يتفق كثيراً مع الموضة. فلن تستطيع، وسط رجال في ثياب العشاء، أن تقول "من فضلك، أريد سندويشاً، أكاد يغمى علي. ولهذا أبتسم عندما يشيرون الي في أوصاف بيوغرافية كديبلوماسي. وفي بعض الحالات ـ على سبيل المثال في Esquire ـ أطلق عليّ لقب السفير. فالسفراء، حسب فهمي، يمكنهم أن يعتمدوا على غذائهم، علاوة على شيء صغير آخر. وقد كنت مجرد قنصل غارق في الفقر.
وقعت على الشارع. لم يكن له اسم، بل مجرد رقم غير رومانسي: الحارة الثانية والأربعون. ربما كان ذلك هو السبب في أنني نسيته وسرت مع ماتيلدا في الشارع الضيق، نفس الشارع الضيق الذي كان يقودني يومياً قبل أربعين عاماً الى مدينة كولومبو. شيء غريب، كانت كل المنازل متشابهة، بنايات صغيرة ذات طابق واحد أو طابقين مع الحديقة الشائعة في الضواحي ذات النباتات الاستوائية التي تحمر خجلاً لضآلتها بالقياس الى لون وروعة الحدائق بشكل عام.
والأغرب من ذلك: أنهم كانوا سوف يهدمون في اليوم التالي مباشرة، البيت، بيتي.
حسناً، إذن، لقد استمرت تلك الحجرات تقود حياتي بدون أن أعرف. لقد حددت موعداً، وبدون علم، وصلت في الموعد، في آخر يوم في حياتي.
دخلت: غرفة المعيشة الصغيرة للغاية، ثم غرفة النوم الضيقة التي كانت خاوية فيما عدا غطاء ظل على الأرض سنوات عديدة من إقامتي. ثم، في الخلف، ربما شبح برامبي، وكيريا، نمسى.
لذت بالفرار من ذاكرتي نحو الشمس، نحو الحياة.
لقد كانت تجربة مخيفة، لقد سقطت في المصيدة التي نصبها لي المنزل الذي عشت فيه، البيت الذي أراد أن يموت.
لماذا بعث بطلبي؟
هناك أشياء سوف تبنى سراً ما دام يوجد المنازل والرجال.
بورتريهان لوجه واحد
وضعت الصدفة جنباً الى جنب على حائط بمنزلي صورتين لشابين ولدا في زمنين وبلدين مختلفين كان مصيرهما ولغتاهما مختلفين. ومع ذلك، أثارت الصورتان الشخصيتان نفس الدهشة في نفس كل من يراهما معلقتين هناك معاً. قد تعتقد أنهما لشخص واحد، ونفس الشخص. كلاهما تنم نظرته عن قيمة لا تقهر معينة. كلاهما له رأس كثيف الشعر. نفس الحاجبين، نفس الأنف، نفس الوجه اليافع المتحدي.
إحداهما صورة فوتوغرافية لرامبو التقطها كارجات عندما كان الشاعر الفرنسي في عامه السابع عشر، والأخرى صورة مايكوفسكي رسمت في 1909 عندما كان الشاعر السوفييتي الشاب يدرس في مدرسة ستروغانوف للفنون التطبيقية.
تشارك هاتان الصورتان في الميزة التي عملت في غير صالحهما في حياتيهما المبكرة، عبوس عنيد ومثير للازدراء: إن وجهيهما هما وجها ملاكين متمردين.
ربما توحدهما علامة سرية تكشف بطريقة ما جوهر المجددين.
لأن كليهما مبتكرة. رامبو يعيد تنظيم الشعر، وقد وصل الشعر فيه الى أعنف جماله. مايكوفسكي، معماري الشعر ذو السيادة، ينشئ تحالفاً لا يمكن القضاء عليه بين الثورة والدقة. وقد التقيا وجها هذين المبتكرين الشابين عن طريق الصدفة على حائط بمنزلي، كلاهما يحدق فيّ بعينين سبرتا العالم، وقلب الإنسان.
مايكوفسكي، كان يمكن أن يكون في الخامسة والسبعين. لو كان في وسعنا أن نلتقي ونتحدث، لكنا قد أصبحنا صديقين.
إن هذا الاحتمال له تأثير غريب علي، كما لو كان تقريباً قال لي شخص ما إنه كان بوسعي أن أتعرف على والت ويتمان. لقد اتسع مجد أسطورة الشاعر السوفييتي الى حد أني أجد صعوبة في أن أتخيله يدلف داخل ريستوران أراجبي في موسكو، أو حتى أن أتخيل قوامه الفارع على خشبةالمسرح، ينشد القصائد المنسقة مثل أفواج تهاجم مواقع عدو، تطقطق بإيقاع أمواج البارود والعاطفة المتلاحقة.
صورته وشعره يحملان مثل باقة من الزهور البرونزية في أيدي الثورة والدولة الجديدة. ولا شك أنهما غير قابلين للإتلاف، حديديان، وقويان، وكأنهما، مع ذلك، ليسا أقل خصوبة. إن قصائد مايكوفسكي، التي ولدت على أجنحة التغيير، كان لها دور في التغيير، وكانت هذه هي عظمة مصيره.
إنه وضع متميز: شاعر حقيقي في أهم عصور بلده التاريخية، وفي هذا، يفصل شعر مايكوفسكي الى الأبد عن شعر رامبو: إن رامبو رائع، لكنه مهزوم ـ ألمع الشعراء الرجيمين. ومايكوفسكي، بالرغم من موتته التراجيدية، هو مكوّن رنان وحساس في أحد أعظم انتصارات الانسان. وهو، في هذا الصدد، أقرب الى ويتمان منه الى رامبو. لقد كان ويتمان ومايكوفسكي جزءاً من النضال، وقد عاشا عصريهما العظيمين. إن ويتمان ليس مجرد عنصر زخرفي في حرب التحرير التي خاضها لنكولن: فشعره يتطور في ضوء وظل المعركة. ومايكوفسكي يواصل الغناء في المشهد الحضري لمصانع بلده، ومعاملها، ومدارسها، ومنتجاتها الزراعية. ويتسم شعره بدينامية صواريخ الفضاء الضخمة.
كان يمكن أن يكون مايكوفسكي في عامه الخامس والسبعين. ويا لها من خسارة لأنه ليس معنا!
*إن بيكاسو شعب
في أمريكتينا تحقَّق الاكتشافات: فوق جزر غير مسكونة أو في أدغال سريعة الغضب فجأة، تحت الأرض، يعثر المرء على تماثيل من ذهب، ولوحات مرسومة على حجر، وعقود فيروزية، ورؤوس ضخمة، وآثار مخلوقات مجهولة لا تحصى تنتظر الاكتشاف وتعطى أسماء حتى يمكن أن تتكلم من قرون صمتها.
في إحدى جزرنا توجد طبقات متعددة من بيكاسو تجريده الصرحي، وإبداعه الصخري، وجواهره الدقيقة، ولوحاته التي عبر فيها عن السعادة والرعب، قد يبحث الأركيولوجي الذي اعتراه الذهول بحثاً طويلاً وشاقاً عن السكان والثقافات التي كومت بغزارة هذه الألعاب والمعجزات الرائعة.
إن بيكاسو جزيرة، قارة يسكنها المغامرون، والكريبّيون، والثيران، وثمرات البرتقال. إن بيكاسو شعب، لا تغرب الشمس في قلبه أبداً.
التعليقات