رحلة مقتدى الصدر مع الاحتلال الأميركي للعراق انتهت قبل أن تبدأ. حصل الافتراق لحظة سقوط النظام السابق. وبرغم الارتباك الذي تحكّم بسلوك القائد الشاب في البداية، وبرغم استمرار الارتباك لاحقاً، فإن الطابع الغالب على موقفه من الأميركيين بقي سلبياً.
ربما التفسير الأقرب إلى الصحة لنزول الصدر من قطار الاحتلال لحظة انطلاقه أن جمهوره لا مكان فعلياً له في هذا المشروع. لا ضرورة لامتلاك وعي سياسي حاد لإدراك هذه الحقيقة. إن جمهور مقتدى الصدر لا يتعرّف على نفسه في نجاح المشروع الأميركي كما يقدم نفسه. لا تخفي واشنطن أنها تنوي تقاسم النفوذ في العراق مع موثوقين اختبرت ولاءهم، ومع وجهاء يرتضون حصة، ومع أصحاب رساميل أجانب ومحليين. لذا فإن جمهور الصدر يعبّر تعبيراً أصيلاً عن نفسه حين يرفض التماهي مع هذه التركيبة. وليس غريباً أن يستعير التعبير الأدوات المفهومية والفكرية والسياسية والعملية الوحيدة المتاحة في الشروط العراقية الراهنة. وإذا كانت سهلة هزيمة هذه الأدوات في مناظرة فكرية راقية فليس أصعب من إدارة الظهر لقاعدة واسعة تملك ثأراً على النظام السابق (عاشت على تخومه وفي مواجهة معه) ولكنها لا تجد وسيلة لربط مستقبلها بالوعود الأميركية للعراق.
نحن، كما يقال، أمام ظاهرة أو أمام حالة شعبية. يكفي لإثبات ذلك أن نقارن كيف يمكن لجندي أميركي واحد أن يغلق مقرات lt;lt;المؤتمر الوطني العراقيgt;gt; لصاحبه أحمد الجلبي في حين أن معارك عسكرية ضارية تبدو ضرورية من أجل ضبط التيار الصدري أو الرهان على استئصاله. وإذا وضعنا جانباً ما يحصل مع الجلبي منذ فترة علينا أن نتذكّر أنه كان، حتى الأمس القريب، شريكاً نافذاً في اختيار الهيئة التي سينبثق عنها مجلس استشاري. في هذا الوقت كان هناك من يتذاكى على الصدر ويعرض عليه، في مناورة مكشوفة، أن يشارك بصوت من أصل ألف في lt;lt;لويا جيرغاgt;gt;.
رحلة آية الله علي السيستاني مع الاحتلال من طبيعة مختلفة ولمسافة مختلفة. قبل مقاربة ذلك يتوجّب طرح سؤال ساذج: هل ثمة احتمال، ولو ضئيلا جداً أن يسقط مواطن عراقي بريء من مقلدي السيستاني برصاص بريطاني في البصرة؟ الجواب إيجابي على الأرجح. هذا الاحتمال وحده يكفي لطرح أسئلة خطيرة. لماذا السفر في هذا اليوم بالذات؟ الأجوبة متعددة. لكن واحداً منها هو ما قاله ضابط أميركي لlt;lt;واشنطن بوستgt;gt;: كثيرون يعتقدون أنه ضوء أخضر لنا لنفعل ما يتوجب علينا فعله. ثم تعلّق الصحيفة أن التفسير الرسمي للسفر يثير ابتسامة القادة الميدانيين الأميركيين. ولماذا إلى لندن؟ وأخيراً لماذا هذا الصمت المدوي؟
لقد ارتكب رجل الدين الكبير خطأ تجاهل اللحظة التاريخية. وضع نفسه في موقع الحياد الإيجابي حيال خطوة الاحتلال. كانت الخيارات متعددة أمامه فذهب إلى أحد أكثرها سوءاً. إن باب الاجتهاد مقفل هنا: كان على السيستاني أن يكون في أي مكان سوى لندن أو واشنطن عندما تكون أحداث العراق على ما هي عليه.
يطوّر هذا السلوك موقفاً ملتبساً بالأصل. لم يصعد السيستاني في قطار الاحتلال ولم ينزل منه. واكبه في مقطورة خاصة. وسمح لنفسه، أحياناً، بأن يتدخل لتغيير الوجهة. وتصرّف كمن يعتبر أن الوصول إلى محطة محددة، تحويل الأغلبية العددية المفترضة إلى أغلبية سياسية، يسمح له بحرية حركة. إنه موقف انتظاري ينظر من علياء lt;lt;الحكمةgt;gt; إلى الجنود الأميركيين بصفتهم أنفاراً يقومون بمهمة تتحكّم بها مشيئة لا تريد إلا الخير للعراقيين أو لكثيرين منهم على الأقل.
إذا كان مقتدى الصدر مغامراً، أو هكذا يبدو، فإن السيستاني واهم.
رحلة أياد علاوي مع الاحتلال ذات نكهة خاصة. صعد إلى القطار بين ركاب الدرجة الأولى. ولكن، في محطة معينة، ولأن تغييراً حصل في القاطرة القيادية بات في وسعه أن يتقدم الصفوف وصولاً إلى مطالبة أحمد الجلبي بالنزول. لم يحصل ذلك لأن علاوي أكثر شعبية من الجلبي. كلا. حصل ذلك لأنه بات lt;lt;الرجل المناسبgt;gt; في هذه اللحظة حيث اعترضت مسيرة القطار صعوبات اقتضت تغييراً محدوداً.
ما يجب قوله هو أن lt;lt;لعبة الكراسيgt;gt; هذه ما كانت لتتم لولا أن رئيس الوزراء قدم ضمانات كافية بأنه مستعد للأعمال، حتى لو كانت قذرة، التي تمهّد لانتخابات تعيد إنتاج الحالة الكولونيالية. وهذه الأعمال تتضمن، في ما تتضمن، تعطيل دور فعال للأمم المتحدة، ومحاولة استدراج حلف شمال الأطلسي بشروط أميركية، والاستعداد لإصدار بيانات لاحقة تغطي ارتكابات الاحتلال في غير مدينة وضد غير تيار.
لا يملك علاوي حلاً غير أمني للمعارضات العراقية. ولذا فإن جورج بوش عندما يمتدحه لا يشير إلى ديموقراطيته وإنما إلى حزمه وبأسه. أي، عملياً، إلى قبوله المواجهة مع قطاعات شعبية وإلى استعانته بنماذج يمثلها خير تمثيل محافظ النجف عدنان الذرفي.
إن علاوي جزء عضوي من تركيبة lt;lt;قطار الاحتلالgt;gt;. أو هكذا يظن نفسه. وهو ينتمي إلى هذا النوع من الركاب الذي لا يغادر إلا رغماً عنه، أي إلا بعد أن يشعر المعنيون أن التخفف منه بات ضرورياً. إن الجلبي هو مستقبل علاوي إلا إذا سبق العراقيون الأميركيين.
ألقت معركة النجف ضوءاً كاشفاً على سلوكيات هذه الشخصيات التي تلعب دوراً ما في العراق أو في بيئة من بيئاته.
ومن اللافت كم أن صلة كل منها بالاحتلال، في ما يخص القضايا الداخلية، تشبه صلاتها به في ما يخص القضايا الإقليمية، والعلاقة مع إيران تحديداً. وليس من المستبعد أن تكون واشنطن معنية بترتيب lt;lt;البيت الشيعيgt;gt; العراقي وفي ذهنها، بين أمور أخرى، الأبعاد الإقليمية لهذا الترتيب، وهي أبعاد تحتل فيها طهران موقعاً متزايد الأهمية.