منذ أيام قليلة أعلن الزعيم العراقي مقتدى الصدر أنه لا ديمقراطية مع الاحتلال، وانه لن تكون هناك حريات ولا نظام تعددي قبل ان يرحل المحتل عن الأراضي العراقية. وقبل ذلك بأسبوع تقريباً قال رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوجان في حديث صحافي ان تركيا بلد ديمقراطي وانه ليس اسلامياً، ولو ان أكثرية سكانه من المسلمين. هل هناك من مجال للمقارنة بين التصريحين ما خلا انهما جاءا خلال أسبوع واحد تقريباً؟
للوهلة الأولى قد يكون هذا السؤال في غير محله، وان المقارنة غير واردة: العراق اليوم الذي يغرق بصورة متسارعة في بحيرات الدماء والعنف والفوضى، هو غير تركيا التي تتجه الى الاستقرار والتطور الاقتصادي والسياسي. العراق الذي يرزح تحت الاحتلال هو غير تركيا التي لم تعرف في تاريخها الهيمنة الاجنبية السافرة. الصدر، الزعيم الشعبوي الصغير السن المحدود الخبرة السياسية، هو غير أردوجان الزعيم السياسي المحنك الذي قاد حزبه الى انتصار سياسي قل نظيره في تاريخ السياسة التركية. رغم ذلك فإن مجال المقارنة بين التصريحين، أو في الحقيقة بين النظرتين الى الديمقراطية، أمر ممكن. فأردوجان والصدر يتزعمان تياراً إسلامياً، وكلاهما يواجه التحدي الديمقراطي، أو بصورة أدق ضغطاً خارجياً يهدف صدقا أم ادعاء الى دمقرطة بلديهما. وموقف كل من أردوجان والصدر، يمكن اعتباره مؤشرا على ردود فعل شعبية واسعة على هذه الضغوط الخارجية تتجاوز تركيا والعراق. موقف الزعيم التركي يصح مؤشرا لقياس مدى نجاح المقترب الأوروبي تجاه مسألة دمقرطة تركيا، أما موقف الصدر فيمكن اعتباره مؤشرا لقياس مدى نجاح المقترب الأمريكي في تسهيل ولادة عراق ومن ثم فضاء عربي ديمقراطي.
المقارنة الدقيقة بين الموقفين والمقتربين تحتاج الى مجال أكثر اتساعاً من مقال قصير. ولكن مع ذلك من المستطاع وبصورة أولية ابداء الملاحظات التالية:
* انه توجد فوارق مهمة بين المقتربين الأمريكي والأوروبي الى مسألة نشر مبادئ الديمقراطية في العالم هذا اذا افترضنا فعلاً ان الدمقرطة هي هدف الطرفين.
الإدارات الأمريكية، حتى إدارة كلينتون التي أيدت “الطريق الثالث” ونهج الليبرالية الدولية، بدت أكثر استعدادا لاستخدام القوة العصا من أجل تحقيق أهدافها، وأوضح نية في الاستحواذ على ثروات الشعوب الأخرى، وأشد انحيازا الى “اسرائيل” في الصراع العربي “الاسرائيلي” وعداء للعرب وللمسلمين من الاتحاد الأوروبي. بالمقابل، بدت المجموعة الاوروبية اقرب الى استخدام الاغراءات الاقتصادية الجزرة لتحقيق أهدافها، وأقل توغلا وسفورا في مشاريع الهيمنة الاقتصادية، وأقرب الى النظرة المتوازنة في الصراع العربي “الاسرائيلي”، وأبعد عن روح العداء للعرب وللمسلمين من الإدارة الأمريكية الحالية.
* ان المقترب الأوروبي لنشر الديمقراطية حقق مقداراً أكبر من النجاح من المقترب الأمريكي. فلقد تدخلت الولايات المتحدة في العديد من الدول مثل افغانستان والعراق والصومال بصورة مباشرة وبالقوة، وكانت الغايات المعلنة لذلك التدخل هي وضع تلك الدول على طريق الديمقراطية ودفعها الى الالتزام بالمبادئ الرئيسية المتضمنة في شرعة حقوق الإنسان. النتائج كانت مخالفة لهذه الغايات المعلنة.
العراق والصومال وأفغانستان بعيدون اليوم عن الديمقراطية الجيفرسونية. بالعكس، الاحتلال الأمريكي للعراق كانت له آثار سلبية على الحريات في الولايات المتحدة نفسها اذ وفر مبررات للتضييق عليها.
بالمقارنة مع المقترب الأمريكي نجد ان المقترب الأوروبي حقق نتائج افضل. هذه النتائج لاحت أول الأمر في القارة الأوروبية نفسها حيث أسهمت السوق الأوروبية المشتركة في تغيير الأنظمة العسكرية في اليونان وشبه جزيرة ايبيريا. البعض يقول هنا، ولكن ماذا عن الدور الأمريكي في شرق أوروبا؟ حقاً كان للدور الأمريكي اثر مهم. ولكن الضغوط الأمريكية هناك لم تسلك طريق القوة أو التدخل العسكري وإلا لكان مصيرها كارثياً. المقترب الأمريكي في شرق أوروبا كان أقرب الى النهج الأوروبي. اي انه اعتمد طريق الضغوط السياسية والاغراءات الاقتصادية. فضلاً عن هذا، فإن التحولات السياسية في شرق أوروبا لم تكن من نتاج الأمريكيين وحدهم. أوروبا لعبت دوراً كبيراً في الوصول الى هذه التحولات. “السياسة الشرقية” التي اتبعتها المانيا الفيدرالية وأسهمت فيها فرنسا والسوق الأوروبية المشتركة كان لها الأثر الكبير في انتقال دول حلف وارسو الى التعددية السياسية.
* الفارق الكبير بين المقتربين الامريكي والأوروبي يظهر، بصورة خاصة، عند المقارنة بين تركيا والعراق. إن العراق اليوم هو أقرب إلى “مجتمع الفوضى” الذي تخيله الفيلسوف البريطاني توماس هوبز حيث “الجميع يقاتل الجميع”، منه إلى نموذج للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية كما يصوره الرئيس الأمريكي جورج بوش والمحافظون الجدد الأمريكيون، ورغم ان الادارة الأمريكية لا تزال تعد بتنفيذ برنامج زمني “لنقل السيادة الى العراقيين” تمهيداً للدمقرطة، فإن المؤشرات تدل على ان العراق يبتعد في ظل الاحتلال عن الديمقراطية بدلا من الاقتراب منها. فدائرة الصراع المسلح الى توسع مستمر. وبعد انتقال المعارك من الوسط الى جنوب العراق، من المتوقع انتقالها من الجنوب الى الشمال اي الى المناطق الكردية التي اعتبرت في منأى عن ذلك الصراع. وفي ظل مثل هذه التطورات الدرامية فإنه من الارجح ان يصار الى تأجيل المؤتمر الوطني العراقي مرة ثالثة بعد ان كان من المقرر عقده يوم الاحد المقبل في الخامس عشر من شهر أغسطس/آب الحالي.
وتختلف هذه الصورة اختلافاً كبيراً عن صور التطور السياسي والتحولات الديمقراطية التي تشهدها تركيا. ولقد لعب الاتراك أنفسهم الدور الرئيسي في هذا الاتجاه، إلا أنه في الوقت نفسه لا ينبغي التقليل من أهمية ومن تأثير الاتحاد الأوروبي في احداث هذه التغييرات. فبين عام ،1999 اي يوم وافق الاتحاد الأوروبي على انضمام تركيا الى مجلس هلسنكي الأوروبي، ويومنا هذا سار الاتراك أشواطاً طويلة على طريق الدمقرطة. فخلال عام 2001 جرت مراجعة واسعة للدستور التركي كانت من نتائجها تعزيز حق القانون وحقوق الإنسان وتنمية المؤسسات الديمقراطية. وبعد نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة خلال عام 2002 ادخلت مجموعة جديدة من التشريعات ادت الى تطوير حريات التعبير عن الرأي والصحافة والاجتماع وإلى وضع ضوابط واسعة تحول دون انتهاك حقوق المعتقلين السياسيين. وكان من العوامل التي أسهمت في حمل الاتراك على التقدم على هذا الطريق حرصهم على تأهيل بلدهم للانضمام للاتحاد الأوروبي. ولقد وضع الاتحاد شروطاً صارمة للعضوية وارفقها بآلية لمراقبة مدى التزام الدول المرشحة للعضوية بتلك الشروط.
إن التحولات الديمقراطية التي تشهدها تركيا اليوم هي شهادة لأهلها بالدرجة الأولى على نجاحهم في ادارة بلادهم وتحقيق نهضة سياسية فيها. ولكنها في الوقت نفسه شهادة على نجاح “المقترب الأوروبي” في نشر مبادئ الديمقراطية على المستوى الدولي. أما ما يشهده العراق اليوم من تدهور مريع في الحياة العامة، فهو يحمل الدلالات نفسها: انه دليل على فشل القوى السياسية العراقية في ادارة الحياة العامة ادارة سليمة وفي توفير حل سريع لمعضلة الأمن والسيادة وفي تحقيق ما يصبو اليه العراقيون من النهضة والحرية. ولكنه في الوقت نفسه شهادة على فشل ذريع تسجله الإدارة الأمريكية في نشر مبادئ الديمقراطية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية. هذا الفشل يضفي مصداقية عالية على التفسيرات التي تقول ان الادارة الامريكية ليست معنية بالدمقرطة بمقدار ما هي معنية بالحصول على منافع الاحتلال والهيمنة مع تمويه هذه الأهداف بعباءات ايديولوجية.
التعليقات