في الولايات المتحدة الأميركية حزبان رئيسيان مهمان هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. لكن في ميدان السياسة الخارجية، ظهر انقسام واسع جداً ضمن الحزب الجمهوري. وباعتباره مرشح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية، فإن "جورج دبليو بوش" قد أخذ حزبه في اتجاه راديكالي جديد في ميدان الشؤون الخارجية ويبتعد عن نهج الرؤساء الجمهوريين السابقين مثل "ريتشارد نيكسون" وحتى "جورج بوش" الأب. فما هو وجه الاختلاف؟
كان هنري كيسنجر يعتقد أن الأميركيين ينبغي عليهم أن يدركوا أن للدول الأخرى أيضاً مصالح ومقدرات وأن الولايات المتحدة لا يمكنها، على رغم أنها قوية جداً، أن تسيطر على العالم بالقدر الذي قد ترغب فيه. وكان كيسنجر يعتقد أن "توازن القوى"، وهو في المقام الأول توازن ما بين الدول الأكبر في العالم، هو أمر محتوم وأنه أيضاً مفيد في الواقع للولايات المتحدة لأنه يساعد على حفظ الأمن والاستقرار. وأراد كيسنجر لأميركا أن تحسن موقعها في العالم بأن تكون قوية، على أن يتزامن ذلك مع التفاوض دبلوماسياً مع الدول وتشجيعها على أن تكون من بين الحلفاء وتساعد على تحقيق المصالح الأميركية، لتزيد بموجب ذلك فرص تحقيق الأهداف المشتركة.

ولم يعط كيسنجر درجة أولوية عليا للأوضاع السياسية الداخلية التي كانت موجودة في البلدان الأجنبية التي تعامل هو معها. لقد كان أكثر اهتماماً بالسياسات الخارجية للبلدان الأخرى، وذلك لأنه كان يعتقد أنها تؤثر في المصالح الأميركية بقدر أكبر. ولذلك اتبع هو والرئيس "نيكسون" في عقد السبعينيات سياسة في منطقة الخليج تتميز بالتأييد القوي لإيران وللعربية السعودية، وهما الدولتان اللتان أطلق عليهما اسم "الدعامتين التوأمين" لاستقرار منطقة الخليج، كما اختلفا مع أشخاص في الحزب الديمقراطي كانوا يشعرون بعدم الارتياح حيال التحالفات مع الدول غير الديمقراطية.

إن دراسة كيسنجر الأكاديمية لأوروبا جعلته معجباً بالقائدين الألمانيين "ميتيرنيخ" و"بسمارك" اللذين اتبعا سياسة "توازن القوى". لكن عندما كان كيسنجر وزيراً للخارجية، كان غيره من الأكاديميين يطورون أفكاراً جديدة نرى الآن أنها ذات تأثير في البيت الأبيض. ومن بين أولئك الأكاديميين "بول وولفوفيتز" النائب الحالي لوزير الدفاع الأميركي، وهو الذي كان أستاذه في جامعة "كولومبيا" "ليو شتراوس" يجادل بأنه ينبغي على الزعيم الأميركي أن يكون ثابتاً في معتقداته وأن يقاتل مجتهداً ضد الديكتاتورية أينما كانت موجودة. وكان "وولفوفيتز" يعتقد أن الأميركيين ينبغي عليهم ألاّ يتساهلوا مع "الديكتاتوريات" غير الديمقراطية في أي مكان لأنها على حد قوله "غير أخلاقية".

وقد أُعجب "وولفوفيتز" وأصدقاؤه بـ"ونستون تشرشل" لأنه وقف في وجه "هتلر". وكان هؤلاء ينتقدون كيسنجر لاتباعه سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفييتي، وكانوا معجبين بالرئيس الراحل "رونالد ريغان" لأنه كان يعتبر الاتحاد السوفييتي "إمبراطورية شريرة"، ولأنه كان يعتقد أن الاتحاد السوفييتي مجتمع شرير ليس على أميركا أي التزام أخلاقي يوجب عليها محاولة تغييره.

وكان تركيز حالات الجدل هذه في أواخر القرن العشرين منصبّاً على الاتحاد السوفييتي الذي اعتبره كل الأميركيين من حيث الأساس المشكلة الأكبر في سياستهم الخارجية. لكن منذ زمن بعيد وفي عام 1978، بدأ "بول وولفوفيتز" التركيز على العراق. كان عندئذ يعمل في وزارة الدفاع، وقد كتب توصية بخصوص السياسة الخارجية ومفادها أن الولايات المتحدة الأميركية ينبغي أن تشعر بالقلق حيال العراق كتهديد للمصالح الأميركية في منطقة الخليج، وذلك بسبب حكومة العراق المناهضة لأميركا، وهي حكومة من الممكن أن تكون لديها خطط عدوانية بخصوص حقول النفط في العربية السعودية. ورفض "جيمي كارتر"، الذي كان رئيساً آنذاك، ذلك الرأي لأن اهتمامه كان متركزاً على التهديدات المحتملة لمنطقة الخليج من الاتحاد السوفيتي ثم بعد عام 1979من إيران. غير أن "وولفوفيتز" احتفظ باعتقاده القوي الذي مفاده أن واشنطن ينبغي أن تفعل شيئاً لمواجهة ما اعتبره تهديدات يشكلها العراق.

وكان "وولفوفيتز" في وزارة الدفاع في عهد إدارة الرئيس "بوش" الأب، وكان يورد الحجج المؤيدة لمواصلة عملية عاصفة الصحراء في عام 1991 لكي يتم احتلال العراق والإطاحة بصدام حسين. ومرة أخرى، لم تتحقق الغلبة لآرائه، لأن الرئيس "بوش" الأب قرر وقف الحرب الدائرة على الحدود العراقية. وفي أثناء السنوات الثماني التالية، وعندما كان "بيل كلينتون" رئيساً، خرج ""وولفوفيتز" من الحكومة وانتقد "كلينتون" على إجراءاته غير الفعالة ضد صدام حسين. وبعدئذ أتت فرصته الكبيرة في عام 2001، أي عندما تم انتخاب "جورج دبليو بوش" رئيساً وقام بتعيينه نائباً لوزير الدفاع. ومنذ البداية، صار "وولفوفيتز" يورد الحجج المؤيدة لسياسة عدوانية ضد العراق. وبوجود التأييد من "ديك تشيني" نائب الرئيس ومن "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع وغيرهما، ساعد "وولفوفيتز" على إقناع الرئيس بمواجهة العراق والذهاب إلى الحرب للإطاحة بصدام.

وتقول إدارة "بوش" الآن إن سياسة الحرب الاستباقية التي خاضتها كانت صحيحة لأنها أطاحت بديكتاتور ولأنها ستساعد على نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. وذلك أمر جديد، بوصفه سياسة رسمية. فمن الصحيح أن الرئيس "رونالد ريغان"، وهو جمهوري ومن المحافظين، قد دعا إلى التغيير في الاتحاد السوفييتي، غير أنه لم يذهب إلى الحرب لكي يحاول تنفيذ ذلك. ذلك أن "ريغان"، شأنه شأن كيسنجر و"نيكسون"، تجنب اتخاذ خطوات من الممكن أن تزعزع استقرار النظام الدولي السائد وأن تؤدي إلى عواقب سلبية غير مرئية. لكن الرئيس "بوش" أصبح في أية حال مقتنعاً، بفضل كلام ""وولفوفيتز" والآخرين، بأن من الضروري اتخاذ خطوات جريئة لإحداث تغيير إيجابي في العالم وبأن فعل ذلك أمر آمن لأن الناس في كل مكان يريدون التغيير في اتجاه الديمقراطية.

وتعتري المحافظين التقليديين في الحزب الديمقراطي مشاعر عدم الارتياح حيال سياسة "بوش". ذلك أنهم يؤمنون بالديمقراطية ويريدون من البلدان الأخرى أن تتبناها لكنهم يعطون درجة أولوية أعلى بكثير للاستقرار والأمن ولأنهم ما كانوا ليخوضوا المخاطر التي خاضها الرئيس بوش. ويقول هؤلاء إننا ينبغي علينا أن نكون أكثر حذراً وأن نعتمد بقدر أكبر على الدبلوماسية والتحالفات، وذلك لخدمة المصالح الأميركية. ويحترم هؤلاء الاختلافات الثقافية والاجتماعية في العالم. ومرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية "جون كيري" يوافق على هذا الرأي. ولذلك ستساعد حصيلة انتخابات نوفمبر المقبل على تحديد وجهة نظر السياسة الخارجية التي ستكون لها السيادة في البيت الأبيض.