ربما لم تمتحن ثروة حضارية في العالم لا تقدر بثمن كما امتحنت وتمتحن كنوز العراق الأثرية والتراثية في ظل الاحتلال الأمريكي، وهي الكنوز التي تمثل أعظم الحضارات الانسانية وأعرقها. فمع ان جميع المراقبين كانوا يتوقعون أو يمنون النفس بأن الولايات المتحدة وبعد فضيحة لامبالاة جيشها بحماية آثار العراق ومتاحفه لحظة استكماله احتلال بغداد وسائر المناطق العراقية الأخرى، حيث تركت تلك المتاحف والمواقع الأثرية والمكتبات الوثائقية ليعيث فيها اللصوص وعصابات تهريب الآثار فساداً، نقول: مع ان جميع المراقبين كانوا يتوقعون ان تتحمل واشنطن بعدئذ مسؤولياتها الأخلاقية والدولية والحضارية كسلطة احتلال بمساعدة الشعب العراقي على استعادة كامل تلك الآثار والتحف المنهوبة وإعادة بناء ما دمر منها، فإن الولايات المتحدة ما زالت تتصرف من دون أدنى حس من المسؤولية الأخلاقية والدولية، ومن دون ان تتحلى بأدنى حسّ من الوعي الحضاري العالمي للجريمة التي ارتكبتها، هذا على الرغم من كل الحملات الدولية التي نددت بشدة بتقاعس قوات الاحتلال عن حماية هذه الكنوز الحضارية التي لا تقدر بثمن وتعريضها للنهب والدمار والتخريب.

وإذا كان من محاسن التشكيلة الوزارية الحالية للحكومة العراقية المؤقتة ان أسندت حقيبة وزارة الثقافة الى شخصية وطنية عراقية مشهود لها باستقامتها الوطنية ورصيدها الوطني والنضالي العريق، فضلاً عن كفاءتها وعطاءاتها الثقافية ألا وهو مفيد الجزائري، فإن واحداً من أبرز المعوقات والمصاعب التي تواجهه كما عبر عنها هو نفسه مرده الى الاحتلال الأمريكي عينه وعدم كفاية السلطات الكاملة الممنوحة للحكومة المؤقتة، وبخاصة حينما تتضارب هذه السلطات مع سلطات الاحتلال الأمريكي. ولعل أبرز مثال في هذا الصدد المحنة الكارثية التي تمر بها مدينة “بابل” التاريخية حيث تعسكر قوات “ألفا” الأمريكية في ذلك الموقع الذي يعد من أكثر المواقع الأثرية أهمية في العالم. فبالرغم من ان الحاكم المدني السابق بول بريمر قد أوصى قبيل انتهاء مهمته بسحب تلك القوات وإيقاف أعمال شركة أمريكية للإنشاءات، إلا ان الشركة، وبحماية قوات “ألفا”، ما زالت ماضية قدماً في أعمالها الحفرية الهمجية من دون اكتراث بخصوصيات المكان الحضارية.

وحسب تصريح صحافي للوزير مفيد الجزائري نفسه، فإن المعلومات المتوافرة تؤكد سقوط بعض الأسوار التاريخية من جراء تلك الأعمال فضلاً عن انهيار سقف في أحد قصور الملك نبوخذ نصر.

ومما يزيد من خطورة الكارثة ان وزارة الثقافة، وحسب شهادة مفيد أيضاً، تقف مكتوفة اليدين عاجزة عن إنقاذ الموقع. فقد كان لها مكتب وموظفون قبل دخول قوات “ألفا” إليه، لكن الآن وبعد دخولهم تم تقييد حركة الموظفين بمنعهم من الوصول اى أي مواقع أثرية قريبة من المواقع العسكرية الأمريكية.. ومن ثم فإن مكتب وزارة الثقافة هناك لا يستطيع تقدير حجم الخراب بدقة. ولم يستبعد الوزير تورط بعض الجنود الأمريكيين في سرقة بعض الآثار هناك.

وإذا كان هذا هو حال مدينة “بابل” في ظل الوجود العسكري الأمريكي الجاثم عليها، فإن موقع “أور” الأثري في محافظة ذي قار أكثر سوءاً في ظل غياب أي نوع من الحماية، حيث أصبحت الآثار هناك عرضة للسرقة والتخريب من قبل عصابات الآثار المتمرسة في التهريب والاتجار، حيث يتم تهريبها الى الدول المجاورة مستغلة في ذلك فوضى الحدود المفتوحة المباحة من دون حرس فعال.

ومن دون ممارسة أقصى الضغوط الممكنة الشعبية والعربية والدولية لإجبار الاحتلال على رفع يده عن كافة المواقع الأثرية توطئة لانسحابه الكامل من العراق، وهي المهمة التي لن تتم بدورها إلا بتوحيد القوى السياسية والدينية والشعبية مواقفها وسياساتها في كيفية وسبل مواجهة الاحتلال، فإن محنة الكنوز الأثرية الحضارية التي يعيشها العراق مرشحة للمزيد من الدمار والتخريب مثلها مثل محنة شعبه المعذب.