كل تقدم وانتصار يحققه شعب من الشعوب، على أي مستوى، وفي أي مجال من مجالات العمل والمواجهة والمثاقفة، هو.. على نحو ما.. وليد تماسك البنية الاجتماعية وسلامة المعايير، وتقدم المناهج التربوية والتعليمية، ونتيجة من نتائج صلابة القيم الروحية والأخلاقية والقومية وسلامتها، ووضوح الأهداف وخدمتها باستعداد كبير للتضحية من أجلها، ونبل الوسائل المتبعة لدى الأفراد وفي المؤسسات والسياسات.
وعندما يتأسس مناخ اجتماعي- تربوي- ثقافي ـ معرفي ملائم لنمو الإحساس بالحق والواجب والانتماء، تتضح معالم التراتبية الاجتماعية والوطنية، ويتبين كل فرد من أفراد المجتمع الراقي، مراقي السلم الاجتماعي، وطرُق التقدم إلى مراكز الصدارة في كل ميدان، وتبرز مقومات القدوة والبطولة والمثل الأعلى في الأشخاص والأفعال، وتكتسب مهابتها وتؤثر تأثيرها الإيجابي في الناس، كما تتحدد بجلاء أساليب الوصول إلى تلك المكانة، التي لن تكون أبداً اعوجاجا وتهالكاً، وإن شابها فساد فلن تكون الفساد ولن تكون عاجزة عن معالجته؛ كما تتجلى الأعمال والشيم والتضحيات والقيم التي لتلك النماذج، والتي أوصلتها إلى منزلتها تلك، تتجلى لكل من يرى ويسمع ويقرأ ويبحث. عند ذلك تقوم حرمة للحق والوطن والفرد، وتبدأ مسيرة العطاء والبذل والتضحية، ويتضح معنى الجهاد والبطولة والشجاعة والإبداع والحكمة والصلاح، ويقدم ذلك المعنى للأجيال دونما تزييف أو تحريف، فتتفاعل معه وتتواصل وتقتدي به وتتمثله، ولا تشعر أبداً أنها في حالة من الغربة عنه.
وإذا كانت تكمن في السلامة الاجتماعية والصلابة الأخلاقية والروحية، معظم مقومات النجاح والحياة الحقة، فإن مجتمعاتنا العربية التي تشكو من إخفاقات مزمنة ومن حياة تفتقد مقومات الحيوية أو قل مقومات الحياة بحق، ما زالت تعاني من أمراض وعلل وعيوب تفتك في كيانها وعلاقات أفرادها وقيمهم وفي مقومات سلامة المعيار والتراتبية الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحكم تلك المجتمعات، وما تزال عرضة لنمو تلك الأمراض واستفحال تلك العلل والعيوب، فأينما ذهبت تجد شكوى من الفساد والرشوة والبيروقراطية، ومن اختلال في التراتبية الاجتماعية على كل مستوى وصعيد.
-المحسوبية ترفع مقاماً وتصنع شأناً وتملأ كرسياً، وفي المقابل تدفع القادرين على العطاء والمؤهلين له بعيداً عن الأماكن التي هم أهل لها.
-والرشوة تعلي باطلاً وتقوض عدلاً وتخلق تراتبية من نوع مختلف تماماً عما يفرضه الحق والسلامة الخلُقية والاجتماعية.
-والروتين الإداري يميت الصالح العام قبل أن يميت كل من يتصلون به وتتوقف حياتهم وسلامتهم على بقائه وسلامته.
-وقيم المجتمع التي كانت مرعية في الوطن العربي، وفي المجتمع العربي- الإسلامي، والمجتمعات الشرقية، وأعني تلك التي تتصل بما هو أخلاقي -ايجابي- إنساني يحمل خصوصية هوية وتقاليد نظيفة وسليمة وصالحة للبقاء، قيم المجتمع تلك أخذت بالتفسخ والتلاشي على أعتاب الاستيراد المريض لعلاقات ومواصفات تعامل وصلات، كما بدأت تتآكل مقوماتها وتفقد مسوِّغاتها على أعتاب مجتمع استهلاكي تابع لا قيمة فيه للإنتاج والإبداع والأصالة، ولا للتربية الاجتماعية التي ترعى العلاقة والتميّز بين: كبير وصغير، عالم وجاهل، ولا شأن في ذلك المجتمع للعلاقات الأسرية وسلامة الأسرة، ولا مكانة فيه للتراحم والتواد والتواصل على أساس من احترام الإنسان للإنسان الآخر وللقيم التي تصون تلك العلاقة وتحميها من التدهور والتفسخ.
-وأمراض المجتمعات التي تشكو مرّ الشكوى من أمراضها وعالمها وعيوبها أخدت تعشش في نفوس بعض شباننا وتفرخ ويتنامى فتكها في مقومات السلامة والصحة التي كان يعتز بها مجتمعنا:
* فالمخدرات أخذت تنتشر في أقطار وتجمعات وبيئات اجتماعية لم تكن تعرف ذلك الداء من قبل، ونشرت تلك السموم الفتاكة معها سوقها وأخلاقها وعلاقات ذلك السوق وتبادل تلك الأخلاق، ورافقتها أيضاً عللها ومتاعبها ومشكلاتها، فتسربت إلى أسر فأفسدتها أو أفسدت عليها عيشها وحرمت المجتمع من مشاركتها بفاعلية في العطاء والبناء والفداء، كما تسللت تلك الأوبئة الاجتماعية إلى شرائح بشرية فاعلة في المجتمع فأتت على وقتها وأموالها وإنتاجها، وعلى قيمها وأخلاقها أيضاً، فأخذت تشيع في المجتمع نوعاً من العلاقات المريضة والفساد والانحلال والصلات والمعايير الفاسدة والقيم المتآكلة والسلوك المشوه.
*والانحلال الخُلقي، والاتجار بالجسد، وتجارة الرقيق الأبيض، أخذت تنمو في بيئات اجتماعية وفي مدن أو أحياء من مدن عربية، وتتفشى في أوساط لم تكن تتوقع يوماً ما أن تسمع بمثل ذلك بَلْه أن تراه وتمارسه. وسواء أتذرع فَعَلةُ ذلك بالحاجة والفقر أم تذرعوا بالتحرر المزيف المحرف، فإن الفعل أصبح داء اجتماعياً يفتك بالكرامة الشخصية والضمير والمكانة الاجتماعية للشخص المعني بذلك، كما أثر على البيئة والمبادرة ومعنى القيمة الإنسانية والمنزلة الاجتماعية والوطنية: لمواطن في وطن، وفرد في مجتمع، وخلية في كيان أسري.
وغيّر ذلك لدى شرائح اجتماعية، مهما قلّت عدداً، خلقاً عربياً يلخصه المثل القائل تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، غيَّره بخلق هجين مريض فاسد مفسد، يقتل الشهامة والمروءة والسلامة الاجتماعية والعزة القومية، حيث أصبح لسان حال أولئك لا يثقل عليه القول: تجوع من لا تأكل بثدييها. كما أصبح لفعل أولئك وسلوكهم وانحلالهم الخلقي تأثير مثير في مجتمع مفتت فقد قيمه وصلابته وربما مقاومته لإغراء الحاجة والمادة، وسقط لدى شرائح أفراده تأثير الأخلاق والدين والسلطة الرادعة: اجتماعية كانت أم أخلاقية أم سياسية فصار بيئة تساعد على انتشار الفساد. فسقوط الحر والحرة على هذا النحو، فيه سقوط أشياء خطيرة كثيرة خسرها أو سيخسرها الوطن والمجتمع على السواء.
-والبلطجة أصبحت في بعض الأقطار والأمصار فعلاً معلناً لا يعيب فاعله ولا يحتاج صاحبه إلى إخفائه أو دفعه عن نفسه، فأنموذج تلك الشريحة يسرق بنشوة ويعتدي باعتداد ويبطش بالآخرين غير مبال بقوة أو قانون. وهو يمضي في مذهبه ذاك غير هياب، إذ قد أعد لكل شيء عدته، وعنده لكل شخص أو فعل أو قول ثمن وهو يدفع بالتي هي أحسن أو بالتي هي أسوأ لا فرق لديه، فهو يملك من الرصاصة إلى الدولار مروراً بقلوب وضمائر وعقول كثيرين سحقتهم أشكال الذل وأنواعه وأصناف الخوف وشرور الحاجة، في دنيا لم تعد ترحم ولم تعد ترفع مثلاً أعلى أو تقبله من حيث هو أفضل وأرفع وأنفع.
ومن لم يدرك بعد انقلاب سلّم القيم والتقويمات والمعايير في بعض المجتمعات العربية وخطورته عليه أن يستدرك ذلك، ويعرف أنه في بعض مجتمعاتنا أصبح العمل بوجدان وإخلاص ودقة يؤهل صاحبه للقب حمار شغل، والأمانة وعدم السرقة أو رفض الرشوة تسمى غباء، ومن لا يملك مرونة تجعل منه شريراً أو إبليساً في جسد إنسان فهو يحمل السلم بالعرض ولا يعرف كيف يدبر رأسه ويرفع من شأن نفسه، ومن يتعامل مع أجهزة ودول معادية تستهدف وطنه وأمته وقيمه وحضارته هو محرر ورائد للحرية والديموقراطية؟!
-وفئة الباحثين عن العمل المقنعة في كثير من المؤسسات العربية، لا سيما في الأقطار التي تضخم فيها القطاع العام، أصبحت ظاهرة ملازمة لشعارات اجتماعية وسياسية معينة، فمن الطبيعي أن ترى عشرات العمال أو الموظفين العاملين في معمل أو دائرة أو وزارة أو مؤسسة لا يقومون بعمل مجد من أي نوع، أو أن ما ينجزونه في نهار عمل لا يحتاج إنجازه إلى ساعة واحدة من العمل الفعلي. وهؤلاء لا يكتفون بأنهم لا يعملون، بل هم يعيبون على من يعمل أنه يعمل!؟ وهكذا تدور عجلة النخر في جسم المنشأة وفي طاقة العمل لديها حتى تراها خاوية عل ى عروشها، يكثر فيها الداب وينتشر فيها الخراب. ومن الطبيعي أن يؤثر مثل هذا الوضع، حيثما وجد، في اقتصاد أي بلد وفي طاقته على الاحتمال والتقدم والمواجهة، فضلاً عن تأثير ذلك على العناصر القليلة التي تعمل، حيث تشعر كل يوم بالظلم والإحباط وبزحف اليأس على فاعليتها وطاقتها الروحية وقدرتها على الاحتمال.
-ومن المظاهر الاجتماعية المقلقة، التي أراها نتيجة من نتائج المجتمع الذي يصنع على هوى القوى الإمبريالية وبرعايتها الاستهلاكية المهلكة، ظاهرة انصراف شرائح واسعة من الأجيال الناشئة عن التحصيل العلمي والمعرفي، في مستويات مختلفة من حيث الدرجة ونوع التحصيل، وانصراف الكثيرين إلى نوع من الأداء الاجتماعي المفرغ من أي نتائج بناءة على المدى البعيد.
إن هذه المظاهر، وسواها كثير مما يمس السلامة الاجتماعية والخلقية والقيمية، تجعل مجتمعاتنا في أقطارنا العربية، أو في معظمها عرضة للضعف المستمر ولتراكم مقومات التخلف والانحلال وهدر الطاقة. وإذا عرفنا أن شرائح اجتماعية واسعة لم تعد تأخذ بنصح وسائل الإعلام- هذا إن قدمت تلك الوسائل نصحاً لا سيما المسموعة، المرئية منها- ولم تعد ترتدع بروادع الدين، ولا تجد من الحكومات يداً تضبط وتضرب بعدل وحكمة وإخلاص لأن الفساد يأكلها وهي تحتاج إلى ضبط، ولم يعد هناك ثقة فيها وفي قدرتها على القيام بما هو صحي وصحيح. وأن تلك الشرائح أبعد ما تكون عن الوعي والثقافة، أو هي ترى الوعي والمعرفة في ما تفعل من أفعال على امتداد وتنوع نماذج السلوك والأفعال، أقول إذا عرفنا ذلك، أدركنا أي سوس ينخر البنية الأساسية لمجتمعاتنا تلك التي يتوقف عليها كل إنقاذ وكل تقدم وكل تحرير وإصلاح وتغيير.
إن الأنظمة العربية -في ما يبدو- مشغولة بأمور أكبر من قدراتها وتخضع لضغط من الخارج والداخل، وهو ضغط لأمور أعظم من أن تترك دون مواجهة، ولما كانت قد وضعت نفسها، بشكل أو بآخر، في موضع البديل عن الناس، وحملت كل أعباء المواجهة والتحدي والتصدي على كل الجبهات وفي كل الميادين، فإنها تعجز- ومن الطبيعي أن تعجز- عن القيام بأعباء كل تلك المواجهات في الداخل والخارج. ولما كان بعضها يصرف كل ما يستطيع من جهد للحفاظ على الوجود بمواجهة الداخل قبل الخارج ويعتمد على الخارج ليبقى متحكماً في الداخل، ويهتم بأن يبقى الناس في حالة انشغال أو انغماس إن في الحاجة أو في الرذيلة أو في الجهل لينصرفوا عنه، فإنه ليس من شأنه أو من مصلحته أن يخرج الحيّة من وكرها ولا أن يبعث الحرارة في جسدها الباردة حتى لا تهاجمه.
وحين يرضى كل من المجتمع والسلطة عن نفسه ونهجه ودوره في أمثال تلك المجتمعات التي تتآكل بناها ببطء واستمرار، فإن التأثير ينعكس على المواطن وعلى الوطن ومكانته وحريته وكرامته، وعلى الأمة وقضاياها ومصيرها ومنزلتها بين الأمم. ومن الطبيعي أن الداء الذي يصيب المجتمع وينصب عليه يتضافر مع الداء أو الأدواء التي تنخر في أفراد وشرائح وتسري عدواها متسللة إلى جسم الكل لتضعفه وتفعل فعلها فيه. وإذا تضافرت أدواء من صنع مجتمعاتنا وأنفسنا وأنظمتنا مع أدواء ومخاطر من صنع أعدائنا والطامعين بنا، فإن الأعباء تصبح أكبر من القدرة على الاحتمال، ونرزح جميعاً تحت ضغط الظروف والعلل والنكبات ولا نملك إلاّ مرّ الشكوى والأنين الذي لا يصنع خلاصاً ولا يقود إلى مخرج لنا مما نحن فيه.
من المسلم به أن المسؤولية هي مسؤولية الواعين والمعنيين الشرفاء، في كل ساحة عمل وفي كل قطر، ومن المسلم به أن المثقفين والسياسيين والمربين لهم دور أول وعليهم مسؤولية أكبر ومطلوب منهم أن يبادروا، ولكن هل أيقنا فعلاً أننا ينبغي أن نبدأ بالتربية أو بالبنية الاجتماعية والخُلقية والقيمية للفرد وللمجتمع كي نضع أنفسنا على طريق الإنقاذ، ونبدأ مسيرة النهضة والبناء والحضارة في القرن الحادي والعشرين، أم أن ذلك ما زال موضوع بحث وموضع نقاش ومما نتمناه ولا نسعى إليه؟!
هل يرى مثقفونا أن عليهم أن يبادروا ويتحملوا مسؤولية عبء المبادرة لينيروا الشمعة في طريق يزداد ظلامها، وأنهم هم المعنيون بوضع السلطات أمام مسؤوليات وأولويات، حياتية وحيوية، بتعاون وإخلاص وتضحية، أم أنهم يرون أن الوقت ما زال وقت استغراق في النظريات وفي معالجة الثنائيات وفي جلد الذات وتقليد الذوات، ويرون أن من واجبهم أن يجلدوا الأمة كي تكون مرنة في قبول التبعية لنوع جديد من الإمبريالية العنصرية تأخذها بالقوة إن لم تركع وتتبع؟!
إن الحرية والديمقراطية وسيادة القانون واحترام الحقوق والحريات العامة، وإعلاء سلطة الشعب ومصلحة الأمة.. إلخ، إن كل ذلك وخلفياته وأساليب الوصول إليه، حسب الاجتهادات والأيديولوجيات، قائم وسيبقى ضرورياً، وستستمر ضرورته والأناشيد على طريقه، وربما سيستمر الجدل بين الثقافة والسياسة حوله. ولكن ألم يحن الوقت للتمسك بمطلبية محددة القوام، لها مرتسمات واقعية مباشرة وتأثيرات حيوية على الحياة وفي مسار عمل الناس وسلوكهم وقيمهم، وهم الذين يصنعون الحياة التي نعيشها، ويحمون مناخها من الفساد، ويتدخلون بشكل أو بآخر، بدرجة أو بأخرى، بمصير كل منا وخصوصياته وشؤون حياته، لأنهم الآخر، سواء أكانوا الجنة أم جهنم؟ الآخر الذي معه نعيش ونصنع الحياة وآفاقها؟ قد نلقي اللوم كله على الأنظمة، ونقول: إن عليها لوما كبيراً وإنها مسؤولة مسؤولية كبرى..إلخ، ولكن لكل فرد، يهمه أمر أمته وشعبه ووطنه ودولته ومجتمعه وأسرته ومصيره، دور وعليه مسؤولية، وإذا كان الفرد مثقفاً مسؤولاً ازداد العبء وكبرت المسؤولية، وكل تأخير في ممارسة ذلك الدور وتحمّل تلك المسؤولية، يسبب مزيداً من الطغيان والتخلف والفساد والإفساد والمعاناة والألم وربما العنف والفوضى، ويؤخر الفجر والدفء والسعادة والتقدم والنصر والفرح. فالمجتمع حامل والمجتمع محمول، وكل منا فيه حامل ومحمول.
- آخر تحديث :
التعليقات