في بداية الحرب على العراق، ورد مراراً الحديث في الصحافة الأميركية عن فيلم روائي يحمل عنوان معركة مدينة الجزائر. ويبدو أن هذا الفيلم، القديم نسبياً حيث خرج الى النور في العام 1966، قد أثار اهتمام المسئولين العسكريين الأميركيين نظراً لكونه يصوّر أساليب الجيش الفرنسي في السيطرة على مدينة الجزائر. التي شهدت في الأشهر التسعة الأولى من العام 1957 سلسلة من العمليات التي قام بها الثوار الجزائريون في المدينة ضد المستعمرين الفرنسيين، في فترة كانت فيها الجزائر ما زالت تخضع للاستعمار الفرنسي... الذي كان يعتبر البلد، آنذاك، جزءاً من فرنسا.
وكان يسكن المدينة، آنذاك، مئات الآلاف من ذوي الأصول الأوروبية المستوطنون في الجزائر منذ أجيال، بالإضافة طبعاً الى الجزائريين سكان البلد الأصليين، الذين كانوا يصفون أنفسهم غالباً بالمسلمين. حيث كانت الصلة بالحركة القومية العربية ضعيفة، باستثناء مواقف بعض الرموز القيادية في جبهة التحرير الوطني التي عايشت التجربة المصرية والأجواء القومية في المشرق العربي في الخمسينيات الماضية وكانت على اتصال مع القيادة الناصرية والأحزاب القومية هناك.
ومعروف أن معركة مدينة الجزائر استمرت عملياً من الشهر الأول من العام 1957 الى الشهر التاسع، الذي جرى فيه اعتقال المسئول الأول عن تنظيم جبهة التحرير في المدينة، ياصف سعدي. وشهدت هذه الأشهر القليلة حملة دموية وقمعية نفّذها الجيش الفرنسي، بقيادة الجنرال ماسّو، في المدينة، وأدت الى اعتقال وتعذيب وتصفية الآلاف من المواطنين الجزائريين، بمن فيهم المسئولين الأوائل عن تنظيم جبهة التحرير.
ويصف الفيلم، الذي بدأنا بالحديث عنه، مجريات هذه الأشهر الدامية بواقعية ودقة كبيرتين. وذلك يعود، الى حد كبير، الى مشاركة عدد من أبطال هذه المعركة، إشرافاً وتمثيلاً، في الفيلم، بمن فيهم القائد الأخير لمنطقة مدينة الجزائر، ياصف سعدي، الذي كان قد اعتقل في سبتمبر 1957، ثم استعاد حريته بعد استقلال الجزائر في العام 1962.
كما ان مخرج الفيلم، الإيطالي جيلّو بونتيكورفو، كان من جيل مخرجي السينما السياسية الإيطالية اليساريين، الذين كانوا كثيراً في تلك الحقبة الذهبية لهذا النوع من الأفلام، وكان بالتالي متعاطفاً مع الثورة الجزائرية وقضايا التحرر الوطني في العالم.
وقد مُنع الفيلم من العرض في فرنسا لفترة من الزمن ثم جرى تمريره في دور عرض محدودة، في زمن كان فيه أعداء تحرر الجزائر في فرنسا ما زالوا أصحاب نفوذ وقدرة على التشويش، علاوة على كون مضمون الفيلم يشكل إدانة واضحة لسلوك الاستعمار الفرنسي وجيشه في الجزائر، نظراً لانتهاكهما لكل حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، وللإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة قبل ذلك بسنوات قليلة.
أما لماذا يهتم العسكريون الأميركيون اليوم بهذا الفيلم، فهذا ما يفسره وجودهم في العراق، واعتقادهم بأن في تجربة الجيش الفرنسي في العام 1957، كما في تجربة الجيش الاسرائيلي في العام 2002 عند إعادة احتلال المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، ما يفيدهم في تسهيل احتلالهم للمدن العراقية وتحقيق نجاح سريع وقليل الكلفة، كما كانوا يعتقدون، في السيطرة على الجزائر.
ومشكلة الأميركيين، كما الفرنسيين في الجزائر والاسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أنهم رغم التمايزات والخصائص في كل حالة من هذه الحالات الثلاث يعتقدون أنه بالإمكان حسم معركة تحرر وطني لشعب كامل بالقوة العسكرية. فمع أن الفرنسيين تمكنوا في سبتمبر 1957 من قمع خلايا الثوار الجزائريين في الجزائر العاصمة، مما دفع الثوار الى التركيز اللاحق على بناء أنفسهم في المناطق الريفية، وخاصة الجبلية، وفي البلدان المجاورة، حيث تم بناء جيش التحرير الوطني الجزائري في كل من تونس والمغرب.
واصل الجزائريون كفاحهم الوطني التحرري متعدد الأشكال، وعلى كل الجبهات، فأعلنوا حكومتهم المؤقتة في العام 1958، وخاضوا المعارك على الأرض وعلى الجبهات السياسية والدبلوماسية وعلى جبهة فرنسا الداخلية، حيث تنامت المعارضة لدى النخبة هناك، ثم لدى قطاعات متزايدة من الشعب الفرنسي، لاستمرار الوجود الاستعماري في الجزائر. الى أن انتهت حركة النضال هذه بتسليم المستعمرين بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره وفي الاستقلال، الذي أعلن رسمياً يوم 5 يوليو 1962، أي بعد أقل من خمس سنوات على الحسم العسكري لـ(معركة مدينة الجزائر).
وربما يعتقد بعض المستعمرين الجدد أن نماذج التاريخ والمناطق الأخرى في العالم لا تنطبق عليهم، وأن هناك خصائص وسمات مختلفة بين مشروعهم والمشاريع الاستعمارية والاحتلالية السابقة في العالم، وهو بالتأكيد ما يعتقده رجل مثل ارييل شارون، رئيس الحكومة الاسرائيلية، الذي، على الأرجح، ما زال مقتنعاً أن بالإمكان حسم مصير حركات التحرر الوطني بالقوة والبطش، كما فعل في العام 2002 في الضفة الغربية، وكان وما زال يفعل في الضفة والقطاع منذ أن كان مسئولاً عسكرياً للاحتلال عن قطاع غزة قبل أكثر من ثلاثة عقود، لا بل منذ العام 1948 حين كان ضابطاً صغيراً.
لكن مجرد تغيير موقفه بشكل مثير، مؤخراً، من البقاء العسكري والاستعمارية المباشر في قطاع غزة، وبمعزل عمّا إذا كان سيلتزم فعلاً بما يتحدث عنه من انسحابات وازالة مستعمرات أم لا، يؤشر الى أن الوقائع على الأرض تنتهي بفرض نفسها إن عاجلاً أو آجلاً.
ولا يفعل رجال مثل شارون في فلسطين والجنرال الفرنسي ماسّو في الجزائر إلا أن يؤخروا الاستحقاق الآتي لا محالة، ويزيدوا بالتالي من إزهاق الأرواح ومن معاناة الشعب الواقع تحت الاحتلال أولاً، ومعاناة شعبهم أيضاً. وما ينطبق على شارون 2004 ينطبق على حكام جنوب أفريقيا العنصريين في العام 1971، حين صدر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن عدم مشروعية بقاء السيطرة العسكرية الجنوب أفريقية على ناميبيا المجاورة.
*عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- آخر تحديث :
التعليقات