تجسد سياسة شارون حالة كلاسيكية لجدوي الكذب في السياسة ولكذب مقولة أن حبل الكذب قصير ولفقدان الأخلاق كما يفهمها الانسان السوي من السياسة. سياسة ميكافيللية بلا اخلاق في خدمة هدفين يعتبرهما الحاكم عصارة اخلاقه بامتياز ومنهما تصنع المحاليل السياسية: الحفاظ علي الدولة بالنظام القائم والحفاظ علي ذاته في الحكم باعتباره شخصيا الأنسب لتنفيذ هذه السياسات. وطبعا لأن مسألة السلطة تستحوذ عليه فهو شخصيا يريد أن يكون في موقع الحكم هو شخصيا يجب ان يحكم. واقترح ألا يتفه أحد هذا الدافع التافه العديم القيمة من بين دوافع الحكام للحكم. لا مكان للاستخفاف بخفة الأخلاق والقيم لدي الحكام.
وقد انتقل شارون مؤخرا الي تجاوز قرار الحكومة الاسرائيلية من4 ديسمبر2001 باعتبار السلطة الفلسطينية وشرطتها تنظيما ارهابيا ووافق علي تسليح عناصر شرطة فلسطينية. وهنا يلح المنطق مستنتجا بالاستدلال الذي يقصي إمكانية التناقض: اما انه تخلي عن اعتبار السلطة الفلسطينية ارهابية او ان السلطة الفلسطينية تغيرت أي كانت ارهابية ولم تعد. ولا هذا ولا ذاك... فلا هي ارهابية ولا توقفت عن ان تكون ولا قرار الحكومة الاسرائيلي في حينه كان تعريفا للإرهاب. وكل ما في الأمر مصلحة اسرائيلية فورية بوقف الفوضي. لم تتغير السياسة الاسرائيلية وهي غير معنية باقصاء التناقض:' سلطة ارهابية تسلحها اسرائيل'... وهي لا تبذر كلمة واحدة علي منح شرعية للسلطة الفلسطينية حتي حين نتوافق علي تسليح الشرطة. فهذه يجب ان تبقي مسالة معلقة. والمهم هو وضوح الهدف وفعل ما تراه اسرائيل من مصلحتها دون ان يؤثر ذلك علي تحالفاتها.
' اما ان تبني اسرائيل مستوطنات او لا تبني'. هكذا يؤكد المنطقي الشكلي. ولكن المنطق لا ياخذ بعين الاعتبار أن اسرائيل تبني وتقول انها لا تبني أو تبني وتفرغ بعض النقاط الاستيطانية في عمليات شرطة تتصور جيدا لمساعدة بوش في الانتخابات. وتقرر الحكومة انها سوف تبني الف وحدة سكن' في مناطق سوف تبقي تحت السيادة الاسرائيلية في أي حل دائم' ثم يعد شارون باعادة بحث القرار ارضاء للأمريكان ولكنه سوف يعود ويبني...هل يسمعني أحد سيعود ويبني ما جمد في اللحظة المناسبة في مرحلة الضجة علي تفريغ مستوطنات غزة وحتي قبل ذلك. فماذ يفعل الآن انه ببساطة يكذب. هذا كل شيء. يكذب. كما يكذب فلسطينيون مع الفرق انتظارا للجولة الداخلية القادمة بعد ان هدأت الجولة الداخلية الحالية ضد السلطة الفلسطينية.
توضح التطورات السياسية الصيفية في البلاد التي لا تأخذ فيها السياسة أجازة في أغسطس ان منطق السياسة ليس منطقا رياضيا أو شكليا بالمعني المرغوب الذي ينبذ التناقض وينطلق من بديهيات واضحة جلية لا يستطيع العقل ان ينكرها. سياسة مراحل الانحطاط لا تقبل المنطق ولا الأخلاق حكما. فسياسة مراحل الانحطاط لا تنطلق نحو مشاريع كبري محكومة بمنظومة قيم تطرح نفسها كأكثر عدالة وتقدما وتحررية.
وبالإمكان إدانة الولايات المتحدة والحكومة التي تعمل في ظلها إزاء ما يجري في العراق من جهة واستقبال رئيس تلك الحكومة بحفاوة من جهة أخري. بالإمكان اعتبار عميل البنتاجون واسرائيل فجأة مجرد سياسي شيعي تلاحقه واشنطن لأن نهج المخابرات المركزية الامريكية وحلفاؤها العرب انتصر في العراق ولو مؤقتا علي نهج حلفاء البنتاجون. وفي الوقت الذي تقصف فيه النجف بقرار اجماع من الحكومة العراقية يتضمن ان دخول الاماكن المقدسة متوقف علي الامن العراقي وحده يدعي رئيس الحكومة لزيارة ايران.
ولا شك ان ايران مهددة من قبل امريكا واسرائيل ولا شك ان الأجواء تمهد والمزاج السياسي يعد لاعتبار ايران الخطر القادم والمرشح لتلقي الضربة القادمة. حتي انتفاء وجود أسلحة دمار شامل لدي العراق يستخدم من قبل مؤيدي نظرية الخطر الإيراني الاسرائيليين للتنويه أنهم سبق وحذروا أن الخطر الحقيقي بعد حرب الكويت لم يعد قائما في العراق وإنما في الصواريخ الايرانية والبرنامج النووي الايراني وصولا الي حزب الله طبعا. وتثار الأكاذيب بكثافة حول سوريا وتعد العدة لطعنها في أكثر من موقع. وربما يتضمن التكتيك الإيراني الحالي استعدادا للمواجهة لتحييد اكبر قدر ممكن من العناصر حتي الحليفة مع أمريكا أو حتي كسبها ضد عدوان ممكن علي إيران...هذا ممكن. ولكننا سبق وشهدنا نهوض وافول قوي وأنظمة ودول عظمي عديدة تصرفت علي هذا النحو في السابق وغيرت التحالفات بموجب التناقض الرئيسي. وقد رفعت هذه التكتيكات الي مستوي النظرية السياسية التي درست في الكتب وبررت تحالف ربنتروب ستالين وصلح بريست والتحالف مع صدام حسين وغيرها. واقتبستها حركات تحرر في العالم الثالث بأسره مثل م.ت.ف. وغيرها. ولا اعتقد ان سياسيا واحدا في العالم الثالث ربي في كنف هذه النظريات يستطيع ان يتجنب التفكير بهذا القوالب. والمهم انها لم تنقذ أحدا من الأنظمة التي ولدت هذه النظريات واتقنت تطبيقها الي درجة الاحراج المزمن المستديم من نصيب المدافعين عنها كلما تغيرت مواقفها.
لا يعوض التكتيك عن واقعية الهدف. واقعية الهدف ولو كان ثوريا مسألة استراتيجية لا تكتيكية كما ان التكتيك لا يعوض عن عدالة القضية ومصداقيتها والتكتيك لا يعوض عن عناصر القوة الداخلية وتوازنات القوي الخارجية التي تأخذ بعين الاعتبار أوضاع الخصم الداخلية وعملية صنع القرار لديه وقدرة مجتمعه علي الصمود وغيرها...وهي عناصر يتطلب التأثير فيها مصداقية أيضا.
وكما رأينا في أمثلة من حالة شارون من الاسبوع الأخير وحده لا يجري الخصم القوي في هذه الحالة حسابات بموجب المنطق لكي يعير بتناقضاته ولا بموجب الأخلاق التي يعير بازدواجيتها او بفقدانها من حساباته الا اذا تمتع من يوظف هذه العناصر في السياسات الداخلية لدي الخصم بمصداقية او بقرب ايديولوجي تمكنه من ذلك. فالاتحاد السوفييتي لم يتمكن من اختراق السياسة الامريكية الداخلية ولا تمكن من إقامة' لوبي' لأن القضية ليست قضية' شطارة' كما يعتقد العرب ولا مسألة أموال تستثمر وقد رأينا كيف يسوء حال بعض الدول العربية لدي الرأي العام الأمريكي كلما زادت الأموال التي تستثمرها. ولم يساعده وجود مهاجرين من أصل روسي هناك فالمهاجرون من أصل روسي يتضامنون في أفضل الحالات مع قضية روسيا ولكنهم لم يتضامنوا مع النظام السوفييتي بل هربوا منه وحرضوا امريكا عليه. ولا شك ان هذا ينطبق علي كثير من المهاجرين من أصل ايراني في امريكا.
ومع ذلك باستطاعة ايران وغيرها من الدول المعرضة لخطر العدوان والتآمر أن تؤثر عبر استثمار التجربة الامريكية البريطانية في العراق وتفنيد جدوي العدوان هناك. ولكن مجرد اضطرارها لدعوة من يقف علي راس الحكومة في العراق تؤكد جدوي العدوان. والأخير لن يكون بالتأكيد شاهدا علي عقم استخدام القوة ولا علي حق ايران بالتسلح.
التعليقات