حدثني أحد الأصدقاء بحماس شديدٍ عن فيلم مايكل مور «فهرنهايت 9/11» والموقف الرائع الذي يتخذه ضد الحرب على العراق، وبالتالي ضرورة التأكيد على قيمة هذا الفيلم في إبراز مظاهر العداء للعرب، وربما دعوة مايكل مور لإلقاء محاضرة عن فيلمه. وفي زمن عزّ علينا إيجاد من يؤيد الحق العربي حتى في الدعوة إلى السلام والتعايش. باشرتُ برؤية الفيلم في معرض البحث عن أصدقاء مهمين لقضايانا العربية، ولكنّ ما وجدته في الفيلم هو موقف أمريكي صارم، اتخذه رجل مهم أمريكي ضد رئيس الولايات المتحدة، نتيجة الضرر الذي ألحقته الحرب التي شنّها على العراق بالمصلحة القومية الأمريكية لا بل ولم َيخلُ الفيلم من الحديث عن السعوديين جميعاً، وكأنهم، حكومة أو شعبا، اتخذوا قراراً بضرب الولايات المتحدة في أحداث 11 سبتمبر (أيلول). وانتقد الفيلم حتى تسفير النساء والأطفال السعوديين بعد الأحداث من الولايات المتحدة من دون التحقيق معهم. وراجعت في خاطري وأنا أراقب الفيلم الأحاديث الجمّة التي جرت بيننا كعرب أثناء عملية مدريد للسلام والتي ركّزت في معظمها على من يؤيدنا ومن يقف ضدنا، من هو أكثر إخلاصاً لنا ومن الذي يتاجر بقضايانا.
كما استحضرت في ذهني تركيز بعض العرب في العام الأخير على أن أيام الرئيس بوش قد تكون معدودة، وأنه قد لا يتم التجديد له إلى أن أصدر كيري برنامجه الانتخابي، واكتشف هؤلاء أنفسهم أن كلّ ما يعني كيري في الشرق الأوسط هو كسب أصوات وأموال اللوبي الإسرائيلي حتى إن تمّ توجيه أكبر قدر من الإهانة والإذلال للعرب، وحتى بارتكاب أفظع الجرائم بحق الفلسطينيين الأبرياء بحجة الصداقة مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب الفلسطيني. لا بل ذهب كيري إلى أبعد مما ذهب إليه أحد من قبله وهو أنه يرغب في الاستغناء عن نفط العرب وهذا لن يحدث طبعاً، ولكنه يريد أن يستمرّ باستجرار نفط العرب بأزهد الأثمان، وأن يجرّد هذا النفط من أي قيمة على المستوى السياسي والدبلوماسي. وفي تحليل الأخبار الأخيرة تشير بعض المصادر إلى النزعة القومية لدى المرشح كيري، ورغبته في عودة كثير من الصناعات إلى الولايات المتحدة لما فيه خير العامل الأمريكي، مع تجاهل مطلق لأسس الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومرجعية مدريد للسلام وقرارات الأمم المتحدة الداعمة للحق العربي.
والسؤال هو ماذا يتوقع العرب من مايكل مور أو من جورج بوش أو جون كيري أو من مصادر أخرى في واشنطن اعتبرت أن كل ما يرتكب في فلسطين من جرائم يثبت الحاجة الماسة لإصلاح أجهزة الأمن الفلسطينية! (وليس لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة مثلاً!) وأنّ ما يجري في النجف من استباحة لمدينة من أشرف المدن في ضمير المسلمين، ومن أرفع رموز البحث والتحصيل العلمي والديني والمعرفي بأنه دليلٌ على ممارسة القوات الأمريكية لضبط النفس، وعدم رغبتها بإلحاق الأذى بالأماكن المقدسة! ماذا يتوقع العرب ممّن يهجّرون أبناء مدينة أبرياء يريدون الأمن في منازلهم وأوطانهم فيتم تشريدهم من ديارهم، بحجة الحرص عليهم، بعد أن تم تضخيم أهمية من يحملون أسلحة بسيطة في مواجهة الصواريخ والطائرات والدبابات لتبرير ضربهم بقسوة، وإلحاق الأذى والخراب بالمدينة المقدسة؟!
ماذا يتوقع العرب ممن يغيّبون معاناة إنسانية لا تطاق للعرب في فلسطين والعراق، ويتحدثون فقط عن اشتباكات هنا وهناك، اشتباكات بين أطفال في طريقهم إلى المدرسة، وبين دبابة يعتليها قناصة يطربون لقتل الأطفال العرب. وماذا يتوقعون ممن قتلوا الطفلة العراقية البريئة ذات الثمانية أعوام، حنان صالح مطرود، وضاعفوا إهانة القتل مرات حين دفعوا لأهلها سبعمئة دولار ثمناً لحياة كانت تضيء أركان المنزل وحياة والديها المكلومين. لقد غيّب الإعلام العربي كل عذابات العرب وأصبح الشهداء مجرد أرقام تذكر من دون أسماء ومن دون الإتيان على ذكر المأساة التي سببها اغتيال حتى الصحافيين وآخرهم الشهيد الصحافي مازن دعنا، ومئات الآلاف من المدنيين العرب الأبرياء الذين يتوقون للحرية والعدالة ويقضون شهداء في سبيلهما. على كل عربي اليوم في الوطن والمغترب أن يؤمن أن مايكل مور وجون كيري وغيرهما، كلٌّ يسعى من أجل مصلحته السياسية ومصلحة شعبه، وفي كل الأحوال كما يراها من زاويته ومن وجهة نظره، وأن أحداً لن يسعى لرفع الظلم المحيق بالعرب اليوم من كل حدبٍ وصوب إذا لم تبدأ البداية من قبل العرب، «فلا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم». فليس غير العرب من يجب أن ينتصر لشهدائهم وقضاياهم وكرامتهم، وهم الذين يجب ألا ينسوا، أو يتناسوا، الجراح مع مرور الزمن بل أن يعملوا جاهدين كي يكونوا الصوت الأساسي لقضاياهم، وكي يعبروا عن أنفسهم وأن يقفوا على مواطن الظلم والتعتيم التي تعتري قضاياهم عن سابق تصميم وإصرار. أما المراهنات على فوز هذا أو ذاك واختفاء هذا أو ذاك عن المسرح السياسي فلن تجدي نفعاً، لأنها لن توفر للحقوق العربية والقضايا العربية أصواتها الحقيقية القادرة على حملها بجدارة إلى الساحة الدولية.
هناك الكثير من العرب، خاصة في المغتربات، ممن يهتم بحملات التصويت الدورية في البلدان الغربية ولكن مع أهمية هذه الحملات السياسية التي أخذت طابعاً استعراضياً. ولكن الأهم هو التركيز على شرح الأساسيات في الصراع العربي الإسرائيلي، من أجل حمل الرأي العام العالمي لتأييد العرب في هذا الصراع، وإظهار أوجه الحق فيه، والظلم الذي يقع اليوم على كلِّ من يؤيد هذا الحق، بالنفس أو المال أو الكلام. إن أحد الأسس الذي اتبعته الصهيونية في حملتها العالمية ضد العرب وحقوقهم، هو تغييب تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي، وعدم العودة إلى البدايات بحجة التطلع إلى المستقبل، وعدم الإغراق في نبش جذور الماضي. لذلك على العرب العودة إلى تاريخ الصراع، وإعادة تثبيت تفاصيله في أذهان العالم، كي لا يفكر أحد أن دعم الاستيطان الذي قتل وهجّر وشرّد الملايين أمر مقبول، أو التنكر لحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم أمر قابل للنقاش، أو ضم الجولان أمر يمكن أن يمرّ، وكي لا يردد الإعلام العربي التهديد للمسجد الأقصى وكأنه أمر مسلّم به، أو لا تسأل صحفية على شاشة عربية: لماذا لا يتم الحسم العسكري في النجف؟ إن استحضار حجم المعاناة الإنسانية التي يعاني منها الملايين من العرب بسبب جرائم الاحتلال تحفّز مشاعر المقاومة والإيمان بهذه الأمة وحتمية انتصارها، كما أنّ هذا الإيمان هو الذي يمكّـنهم من تحمل معاناة تعجز النفس الإنسانية عن تصورها. إن أُمَّـةً تـُجَرَّدُ من السلاح ومن ثم يتم تضخيم بعض ما يمتلكه مقاومون من أسلحة خفيفة لتبرير أشد ما يرتكبه أعداؤها بحقها وتقاوم بكل السبل المتاحة، هي أمة تستحق الحياة، ولكنها تستحق أيضاً من مفكريها ومرجعياتها السياسية التعبير عن أصالتها وصمودها وتوقها للحرية والأمن والعدالة.
وهذا ما لم يعبـّر عنه مايكل مور، ولن يعبّـر عنه جون كيري، بل لا بدَّ من عرب مؤمنين بعروبتهم ومستقبلهم كي يتنكبوا لهذه المهمة المقدسة، وأن يصنعوا السينما والمسرح، وأن يكتبوا الأدب والشعر، وأن يصمموا لغةً للفضائيات والجرائد العربية تعبـّر عن الاعتزاز بإرث هذه الأمة والإيمان بحقوقها والدفاع عن مستقبل أجيالها. وللإعلام العربي دور مركزي في فضح الإجراءات العنصرية التي يتعرض لها العرب في أوطانهم المحتلة، وفي بلدان الاغتراب، وأن يسمي الأمور بمسمياتها لكي لا يظنن أحد أننا غير قادرين على فهم ما يجري ضدنا، وما يرتكبونه من جرائم، وما يخططون له من نهب لثرواتنا وحضاراتنا ومستقبل أطفالنا.
لكن على هذا الصوت أن يكون عربياً أولاً، وأن ينطلق من مرجعيات عربية، ومن فهم وإيمان عميقين بالحق العربي ومستقبل العرب، ومن ثم يمكن لآخرين أمثال مايكل مور أن يحملوا قضايانا. لكن علينا نحن أولاً أصحاب القضية أن نحمل هذه القضية إلى العالم من خلال المعاناة العربية، ومن خلال فهمنا الحقيقي لما يجري، وبلغة آلاف الأمهات اللواتي أودعن الشهداء رصيداً غراً كي تحيا هذه الأمة، وبصوت مئات الآلاف من الأسرى والمعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب على أيدي الجلادين «المتحضّرين». فلهم أن نستمر نحن كأمةٍ في الكفاح الذي بدأوه من أجل الحرية، وأن نؤمن بقيم أمة أنارت للبشرية طرقاً شتى في العلم والمعرفة. فهل لها اليوم أن تضيء طريق قضاياها الأساسية على المستوى الإقليمي والدولي؟
- آخر تحديث :
التعليقات