يوجد في التاريخ دائما قضايا كبري تظل معلقة لفترة طويلة من الزمن‏,‏ وخلال ذلك تتشعب القضية إلي تفرعات شتي سرعان ما يصبح لكل منها استقلالها الذاتي‏,‏ ومع كثرة الفروع وتعدد أنواعها‏,‏ ينسي الناس أصل الموضوع كله‏.‏ وعلي مدي القرنين التاسع عشر والعشرين‏,‏ كانت المسألة الألمانية هي القضية الكبري في السياسة الأوروبية‏,‏ والعالمية أيضا‏.‏ فبينما بدأت المسألة بأمة ودولة جديدة فتية صناعية تبحث لنفسها عن مكان تحت الشمس الامبراطورية والاستعمارية‏,‏ فإن الموضوع انتهي إلي عديد من المسائل البولندية والتشيكية والأقليات الألمانية وغير الألمانية‏,‏ وفوق ذلك صراع علي الأرض وعقول الناس بخلافات مذهبية وفلسفية شتي‏.‏ وفي شرق آسيا فإن المسألة الصينية ظلت علي مدي القرنين الأخيرين حاكمة‏,‏ ورغم أنها تبدو وكأنها قد اختصرت في قضية تايوان إلا أن الموضوع امتد للمسألة الفيتنامية‏,‏ وقضية الجماعات ـ والشعوب الصينية ـ في بقية الدول الآسيوية‏.‏ وعلي مدي أكثر من نصف قرن كانت قضية كشمير هي الحاكمة في جنوب آسيا‏,‏ وبينما تبدو القضية أحيانا كما لو كانت هي أصل النزاع الهندي ـ الباكستاني‏,‏ فإنها تبدو في أحيان أخري نتيجة لتقسيم الهند‏,‏ ولكنها في كل الأحوال تلقي بظلالها علي العلاقات الهندوسية الإسلامية في العالم كله‏.‏ وبالنسبة لنا فإن القضية الفلسطينية كانت قضية القضايا في الشرق الأوسط خلال ستة عقود مضت‏,‏ وربما يعود بها البعض إلي نهاية القرن التاسع عشر‏,‏ ولكن القضية مع ذلك تشعبت من أول المسألة الصهيونية‏,‏ حتي مسألة صراع الحضارات‏.‏

ولكن القضايا الكبري‏,‏ بأصولها وتفرعاتها‏,‏ أمر‏,‏ والأحداث واللحظات الحاسمة أمر آخر‏,‏ لأنها تشكل نقاطا فارقة في تاريخ الأمم والأقاليم والدنيا في أحيان غير قليلة‏.‏ وإذا كانت المسألة الألمانية هي الشاغلة للتاريخ الأوروبي كما أسلفنا‏,‏ فإن المؤرخين الأوروبيين لم يكفوا أبدا عن التساؤل عما إذا كان من قبيل الضرورة والحتمية التاريخية أن يجري ما جري في ألمانيا وفي القارة الأوروبية‏,‏ أم أنه كان ممكنا للسياسة أن تقود الدول والأمم إلي طريق آخر لو تصرف القادة بطريقة مغايرة ومن أمثلة ذلك كانت الحرب الأهلية الأسبانية خلال الثلاثينيات‏,‏ والتي كانت فيها بالتأكيد أمور كثيرة تخص أسبانيا‏,‏ ولكنها مع ذلك كانت واحدة من التعبيرات القاسية للمسألة الألمانية حينما انقسم الأسبان بين القوي المحافظة والقوي الديمقراطية‏.‏ وفي اتجاه الأولي جري النازيون والفاشيون ليس في ألمانيا وإيطاليا وحدهما‏,‏ وإنما في بقية الدول الأوروبية‏,‏ وجري في اتجاه الثانية القوي الديمقراطية واليسارية ليس فقط من الدول الأوروبية بل من بقية العالم أيضا‏.‏ وانتهت الحرب بما هو معروف من انتصار الجنرال فرانكو وجماعته الفاشية‏,‏ وكان ذلك هو المقدمة للحرب العالمية الثانية وما جري فيها من مآس وكوارث‏.‏

ومن المؤكد أن التاريخ كان سيكون تاريخا آخر إذا ما انتهت الحرب الأهلية الأسبانية إلي نتيجة مختلفة‏,‏ ولكن المؤكد أيضا أنه لا يمكن إعادة تجربة الأحداث مرة أخري‏,‏ كما أن الأحداث لا تأتي بنفس الطريقة ونفس الظروف في مرات تالية‏.‏
ومع ذلك فإن فكرة اللحظة الفارقة‏,‏ والأحداث الحاسمة‏,‏ تظل لها فائدتها العلمية من حيث القدرة علي تقييم ما يجري من تفاعلات‏,‏ وفي التنبؤ بما سوف يأتي من أيام‏.‏ وفي الظن أن أحداث العراق الجارية‏,‏ بكل تشابكاتها وتفرعاتها سوف تكون أحداثا حاكمة في تاريخ العرب‏,‏ والشرق الأوسط‏,‏ لعقود طويلة قادمة‏,‏ ومن الواجب علي المفكرين والكتاب‏,‏ كما هو علي القادة والساسة‏,‏ أن يتعاملوا معها بهذه الدرجة من الأهمية ليس فقط للحاضر‏,‏ وإنما للمستقبل أيضا‏.‏

ومما يعقد النظر في المسألة العراقية أن لها وجهين‏,‏ واحد متعلق بالاحتلال الأمريكي للعراق‏,‏ والآخر متعلق بالتفاعل والصراع بين القوي السياسية العراقية المختلفة ورؤيتها لمستقبل العراق ودور القوي والطوائف المختلفة فيه‏.‏
والقضيتان متشابكتان‏,‏ بقدر ما تشابك الاحتلال الإسرائيلي للبنان مع صراع القوي السياسية اللبنانية لأسباب شتي‏,‏ وبقدر ما تشابك الاحتلال السوفيتي لأفغانستان مع صراعات القوي الأفغانية القبائلية والإسلاموية بطبعاتها المختلفة‏.‏ وفي حالة لبنان فقد‏,‏ خرجت قوات الاحتلال الأمريكية ثم الإسرائيلية‏(‏ وبقيت السورية وحدها لأسباب ليست موضوعنا هنا‏)‏ ومع ذلك استمرت الحرب الأهلية لسنوات طويلة حتي انتهت في مؤتمر الطائف في أوائل التسعينيات‏.‏ أما في حالة أفغانستان‏,‏ فقد انتهي الاحتلال السوفيتي‏,‏ ولكن الحرب الأهلية استمرت بعد ذلك لأسباب أصولية وغير أصولية شتي‏.‏

ولكن ما يهمنا هنا أن الحرب الأهلية في لبنان وأفغانستان لم تقتصر علي أي منهما‏,‏ ففي خضم الصراع والقتال‏,‏ فإن اتجاهات إرهابية وثورية وأيديولوجية من أردية شتي راحت تتولد لا لكي تؤثر في بيروت أو كابول وحدهما‏,‏ وإنما امتدت تأثيراتها إلي القاهرة‏,‏ والرياض‏,‏ ودمشق‏,‏ وأنقرة‏,‏ وأخيرا نيويورك وواشنطن ومدريد وغيرها من العواصم والمدن‏.‏ وبدون كثير من المبالغة فإن ما يجري في العراق الآن من مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي‏,‏ ومن صراع بين الحكومة العراقية وجماعات مسلحة سوف يكون لها تأثيرات إقليمية وعالمية أكثر بكثير مما فعلته الحرب الأهلية الأسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي بأوروبا‏,‏ ومما فعلته لبنان وأفغانستان في الشرق الأوسط خلال العقود الثلاثة الماضية‏.‏
وربما يكون محمودا في هذه اللحظة التذكير بأن كاتب هذه السطور كان ممن اعترضوا علي الغزو الأمريكي للعراق‏,‏ كما أنه أيضا من المطالبين بزوال الاحتلال‏.‏

وكما يبدو فإن هذا الهدف‏,‏ رغم تشكك الكثيرين‏,‏ قد بات ممكنا بعد أن عرف الأمريكيون برفض أغلبية الشعب العراقي لوجودهم‏,‏ وإن المساعدات التي تأتيهم من الحلفاء ليست فاعلة إطلاقا‏,‏ وثمنها سياسيا واقتصاديا بالغ الفداحة‏.‏ ولعل بشائر ذلك بدأت في الظهور عندما أعلن جون كيري المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية أنه سوف يقلل من حجم القوات الأمريكية في العراق‏,‏ وعندما توقف القادة والساسة في أمريكا عن الحديث عن وجودهم في العراق لفترة طويلة‏,‏ وإنما تحدثوا عن الشروط التي عندها يرحلون‏.‏ وعلي هذا الطريق تم نقل السلطة للحكومة العراقية المؤقتة‏,‏ وجري صدور قرار مجلس الأمن‏,‏ وجري التحضير لتعاون واسع مع دول الأمم المتحدة‏,‏ وحلف الأطلنطي‏,‏ والدول العربية والإسلامية‏,‏ للحلول محل القوات الأمريكية‏.‏
ومع ذلك فإن معركة بغداد ليست فقط معركة زوال الاحتلال الأمريكي‏,‏ فما يجري في المدن العراقية المختلفة‏,‏ وآخرها النجف‏,‏ هو معركة متعددة الأبعاد‏,‏ واحد منها علي الأقل لا يخص العراق إطلاقا وإنما يخص مستقبل العالم العربي والإسلامي‏,‏ وبالتأكيد مستقبل العالم‏.‏ وبدون الدخول في التفاصيل الكثيرة والمتشعبة تشعب كل اللحظات والأحداث الحاسمة في التاريخ‏,‏ فإن الساحة العراقية منقسمة كما كانت الساحة الأسبانية منقسمة منذ سبعة عقود بين قوي ديمقراطية وعلمانية واسلامية في جانب‏,‏ وقوي أخري تتراوح بين البعثية الصدامية والأصولية التقليدية والأصوليات الراديكالية الجديدة‏,‏ ولكنها كلها تجتمع علي رؤية فاشية للعالم العربي والإسلامي كمقدمة للصراع مع بقية العالم‏.‏

الجانب الأول من المواجهة هو الذي حصل علي الاعتراف والشرعية الدولية‏,‏ والجانب الثاني لم يحصل علي أي من ذلك‏,‏ إلا أنه حصل علي تعاطف من الكثيرين خارج العراق تحديدا‏,‏ لأنه يقوم بمقاومة الاحتلال‏.‏ ولكن ما يجري ليس فقط مقاومة الاحتلال وهو حادث بالفعل‏,‏ وإنما هو أيضا محاولة مستمرة لإخضاع الشعب العراقي وابتزازه من خلال تدمير مؤسساته والقتل الجماعي للعراقيين المخالفين ومنع كل ما من شأنه إعادة تعمير العراق‏.‏ ولا يخفي أحد من هذا الجانب نيته في تصدير كل ذلك لبقية الشعوب والدول العربية‏,‏ في شكل نموذج سياسي وأخلاقي بعينه بالغ العسف تجاه حقوق الإنسان‏,‏ والتدمير الكامل لحريات البشر‏.‏ ومن المدهش أن كثيرا من المتعاطفين مع المقاومة العراقية نادرا ما يشيرون إلي من هم في هذه المقاومة‏,‏ ولا نجد أحدا يعرض لخطب وآراء السيد مقتدي الصدر‏,‏ ولا آراء الأكراد ولا حتي آراء الحوزة العراقية فيه‏,‏ وبالتأكيد فإن أحدا لا يقول لنا شيئا عن معتقدات السيد مصعب الزرقاوي وأعضاء جماعة الجهاد والتوحيد‏,‏ خاصة آراءها في بقية أهل السنة والجماعة‏.‏
وباختصار‏,‏ فإن ما يجري أمام أعيننا هو عملية اختبار تاريخية كبري‏,‏ وفي الماضي فقد فشلنا في اختبار لبنان واختبار أفغانستان حينما نجحنا في العمل من أجل زوال الاحتلال‏,‏ وفي الوقت نفسه فشلنا تماما في التحضير لما سوف يأتي بعده ومما يبدو أمامنا من سيوف مرفوعة فوق الأعناق‏,‏ وأقنعة غامضة سوداء‏,‏ فإن ما سيأتي سيكون مظلما للغاية‏!!.‏