يطلق الجنرالات اليهود بين وقت وآخر بالونات اختبار لقياس درجة الحرارة في بارومتر العرب، وأحياناً تكون هذه البالونات تصريحات سياسية أو عسكرية، وأحياناً تكون عملية من خلال غارات مفاجئة تخترق الأجواء العربية بلا أية روادع أو مصدات جدية.
آخر البالونات.. كان حول الجولان، وإمكانية الانسحاب منها اذا قدمت سوريا الثمن المطلوب، وهو على الدوام ثمن باهظ، وإن كان قد أضيف اليه مؤخراً حزب الله.. ومنظمات فلسطينية توصف بالراديكالية حيناً وبالإرهاب أحياناً.

وحسب التصريحات العسكرية الصهيونية فإن الانسحاب نوعان، ميداني، ونظري، وكأن الاحتلال أيضاً نوعان.. وهذا بحد ذاته استخفاف بالعقل واستعراض سادي أخرق للعضلات العسكرية بلا أية مناسبة تستدعي ذلك، لكن “الدولة العبرية” تبتكر المناسبات، لتذكير العرب بأنهم الأضعف، والحائط الأقصر.

وتزامنت تصريحات الجنرال الصهيوني مع حادث قد يكون عابراً بمقياس “قبّان” اللحم البشري والموت بالجملة، وهو استعادة رفات طائرة اسقطت في العراق قبل أكثر من ثلاثة عقود. وبالطبع لن يدفن رفات الطائرة كما يحدث لأشلاء الجنود المستعادين بمقايضات غير متكافئة لأن الحروب غير متكافئة والسلام أيضاً غير متكافىء.

وقد يضاف رفات الطائرة ذات النجمة السداسية الى متحف صهيوني، وقد يكتب عليها بالعبرية ما كتب على دبابة عراقية في مقبرة الجنود العراقيين في مدينة جنين الفلسطينية، فقد كتبوا على تلك الدبابة: هذه الآلية العسكرية وجهت مدفعها نحو جنود جيش الدفاع.. لهذا نكسنا رايتها وترجمنا حتى حديدها الى اللغة العبرية.

قد يكون تزامناً غير متكافئ أيضاً هذا الذي جمع بين استعادة رفات طائرة وتصريح عسكري بإمكان الانسحاب من الجولان. لكن المقصود بكلا الموقفين استعراض التفوق العسكري، وإعلام العرب بأن الجغرافيا لم تعد البطل في الحروب الحديثة.. وما بعد الحديثة أيضاً وأن الذراع العسكرية الصهيونية تصل، كما قال الجنرال موفاز، الى أقصى نقطة عربية.. اذا ما تطلب الأمر ذلك.
وهضبة الجولان محتلة منذ سبعة وثلاثين عاماً، وسبق أن حاولت “الدولة العبرية” استثمارها ببناء مدارس، وتشييد مؤسسات الهدف من انشائها هو تكريس الاحتلال وتحويل السلب الى استحقاق.

بعض المراقبين لم يروا بهذه التصريحات سوى استعراض للقوة، وترسيخ مفهوم عبري حاول أن يكن توأماً اقليمياً لمفهوم دولي ولد بعد احداث سبتمبر/ايلول ،2001 وهو أن حزب الله والمنظمات الفلسطينية التي تتخذ من الأراضي السورية مقراً لها هي منظمات ارهابية، ومشمولة ضمن القائمة السوداء التي اطلقت عليها واشنطن محور الشر.
ويبدو كل ما قيل عن السلام بوصفه خياراً استراتيجياً بقي ضمن المدار العقيم لسياسة صهيونية تصر على أن تأخذ السلام والأرض معاً، تماماً كما قالت جولدا مائير لهنري كيسنجر، فقد قالت: إن الأرض والسلام معاً في حقيبتها تماماً كالمشط والمرآة.

وما من احتلال كهذا يصر على تحويل المسروق الى استحقاق قانوني وملكية، لأنه احتلال مارسته دولة هي في حقيقتها مستوطنة كبرى ولا رادع لها من أي نوع، ولا يمكن لها أن تحاور الا بالقوة المماثلة اذا وجدت! لكن مثل هذه القوة للأسف غير موجودة، وما جرى حتى الآن هو خلع ما أمكن خلعه من أسنان العرب، وتدجين ارادتهم السياسية بحيث يتعاملون مع الواقع الطارىء والمفروض بقوة السلاح كما لو أنه قضاء وقدر.

لهذا كانت مقولة القبول بالقليل أفضل من خسارة الكل، التعبير الذي يجسد شلل الإرادة وفلسفة الامتثال البائسة التي أدت عبر متوالية القبول والتأقلم الى إسالة المزيد من اللعاب الصهيوني على الأراضي العربية.

لقد تحدث الجنرالات والخبراء الاستراتيجيون زمناً عن أهمية هضبة الجولان الاستراتيجية، لكنهم الآن يعلنون أن الدنيا قد تغيرت، والسلاح قد تطور، وما كان عقبة في الماضي قد يتحول الى ركيزة أو رافعة في الحاضر أو المستقبل. لهذا، فهم لا يذكرون العرب بالمحتل من أرضه من أجل استئناف مفاوضات السلام أو من أجل التوصل الى أية صيغة تضع حداً نهائياً لصراع دام قرناً من الزمن.. بل يفعلون ذلك، كي يصبح الاحتلال مزدوجاً فيطال العقل والوجدان مثلما يطال الأرض. ومن تبنوا منذ الرصاصة الأولى فلسفة القوة لإعادة رسم التضاريس والخرائط، لن يفهموا على الاطلاق لغة أخرى، لأنهم لا يعترفون بأي كلام يولد خارج معاجم عبرية تتربع الخوذات على رؤوس مفرداتها.

بالطبع، لن يكون جنرال يتلمظ بتصريح اختباري كالمتنبي الذي نام ملء جفونه عن شواردها، لكن الخلق سهروا واختصموا حولها، فمثل هذه التصريحات فقدت جاذبيتها وجديتها لفرط تكرارها، ولكونها ترد ضمن سياقات عدوانية عديمة الصلة بأي هاجس سلمي، أو رغبة في انهاء صراع مزمن.