الحرب هي على النجف وليست في النجف. بمعنى أن النجف ليس مجرّد مسرح للحرب بين القوات الأميركية وجيش المهدي بقيادة السيد مقتدى الصدر، ولكن الحرب هي على النجف من حيث رمزيته وموقعه في ضمير المسلمين جميعاً في العراق وفي العالم الاسلامي كله.
فإذا كان الاسلام كدين قد استبيح من خلال التعامل الأميركي معه على أنه مصدر الارهاب الذي يعاني منه العالم، فإن استهداف النجف الأشرف في العراق، واستهداف المسجد الأقصى في فلسطين لن يكونا بعد ذلك بالأمر المستغرب. بل لن يكون مستغرباً غداً استهداف الحرمين الشريفين في مكة والمدينة. ذلك أن تمرير عملية استباحة النجف تشجع على المضي قدماً في استباحة كل شيء مقدس في الاسلام: الانسان، والنص، والمواقع.
من الواضح أن المخطط الأميركي الذي يستهدف النجف يتم على مرحلتين؛ في المرحلة الأولى تقتحم القوات الأميركية المدينة المقدسة وتسيطر عليها معتمدة على تفوّقها العسكري. من دون أن تقتحم مقام الامام علي كرّم الله وجهه. وفي المرحلة الثانية تطلب القوات الأميركية من القوات العراقية التي أعادت تشكيلها اقتحام المقام الشريف، فيما تبقى هي في المناطق المحيطة به داعمة ومؤازرة. وبذلك تغسل القوات الأميركية يدها من جريمة الاقتحام وتحمّل العراقيين مسؤولية اتخاذ القرار السياسي ومسؤولية الاقتحام العسكري معاً.
من هنا أهمية حركة التمرّد التي حدثت في صفوف القوات العراقية في النجف حيث انضم المتمردون إلى جيش المهدي دفاعاً عن العتبات المقدسة، ومن هنا أيضاً أهمية الانسحابات من المجلس الوطني العراقي في جلسة افتتاحه يوم الأحد الماضي.
قد يقول قائل ان للنجف رباً يحميه من "أبرهة" القرن الواحد والعشرين. ولكن هل يصح هذا القول الآن وفي العالم أكثر من مليار و250 مليون مسلم؟... وهل يصح أن يقال الكلام نفسه عن "أبرهة" الآخر الذي يستهدف المسجد الأقصى؟... ليست قضية النجف الأشرف قضية عراقية داخلية. إنها قضية اسلامية عامة. والتعامل معها باستخفاف واستهانة فوق أنه يشكل امتهاناً لحرمة موقع مقدس من المواقع الاسلامية، فإنه يفتح شهية المعتدي على المضي قدماً في برنامجه لاستباحة المواقع المقدسة الأخرى، مستسهلاً رد الفعل الاسلامي إلى حد الاستخفاف به.
لقد طرح الفاتيكان استعداداً مشكوراً للتوسط من أجل "إنقاذ مدينة النجف الأشرف". ومما يعطي هذا الاستعداد أهمية استثنائية ليس مجرّد صدوره عن أكبر مرجعية مسيحية في العالم، ولكن إضافة إلى ذلك أنه يكشف عن غياب تام لمنظمة المؤتمر الاسلامي. وكأن ما يحدث في النجف وما يحيط به من مخاطر لا يعنيها من قريب أو من بعيد!!
ما كان لاسرائيل أن تمد يدها بالعدوان على المسجد الأقصى في القدس لو لم تطمئن إلى أن جريمة العدوان التي ارتكبتها على الحرم الابراهيمي في الخليل، مرّت دون أي رد فعل اسلامي يذكر.
وما كان للقوات الأميركية أن تمد يدها بالعدوان على النجف الأشرف في العراق، لو لم تكن مطمئنة إلى قدرتها على افتعال فتنة بين الشيعة والسنّة، وبين الشيعة والشيعة، وبين إيران والسلطة العراقية.
فقبل الحرب على النجف كانت ـ ولم تزل ـ هناك حرب عدوانية على ما أطلق عليه "المثلث السني". وكأن النجف في عالم وهذا الجزء من العراق في عالم آخر! ولقد أثبتت الوقائع أن عملية التقتيل العشوائي التي استهدفت مدينة الفلوجة كانت بمثابة قتل الثور الأسود استعداداً للهجوم على الثور الأبيض.
وقبل بدء الحملة العسكرية الأميركية ضد جيش المهدي حيث قتل المئات من عناصره، وجه الاتهام إلى مقتدى الصدر بجريمة اغتيال العلامة الخوئي في واحد من أقدس المواقع الاسلامية وهو اتهام يستهدف تمزيق الصف الشيعي بتحريض جماعة على جماعة أخرى!! وقبل محاصرة النجف عسكرياً وانعقاد المجلس الوطني العراقي، أعلن وزير الدفاع العراقي أن إيران هي العدو الأول للعراق. أما الولايات المتحدة فقد أصبح تصنيفها في مقدمة الدول الصديقة للعراق؟
لم يحدث ذلك كله صدفة... ولا فجأة. إنه من مقتضيات إضعاف العراق وتمزيقه لتسهيل عملية إخضاعه والسيطرة عليه.
فالمراهنات الأميركية في العراق، كالمراهنات الاسرائيلية في فلسطين تعتمد أساساً على نقاط ضعفنا. ومن أبرز نقاط الضعف هذه قدرتنا الكلامية على الاستنكار والاحتجاج والشجب، وعجزنا العملي عن التضامن ورص الصفوف والتصدي والمواجهة.
من هنا فإن المقاومة الحقيقية في العراق ضد الاحتلال تكون بالوحدة الوطنية أو لا تكون. فلا مقاومة مع التمزق الوطني. وعندما تكون المقاومة لحساب فئة أو طائفة أو مذهب أو منطقة، فإنها تصب في مصلحة المحتل، وتخدم مشروعه الذي يستهدف عبر العراق العالم العربي كله.
ومن هنا أيضاً، لا ينقذ العتبات المقدسة في النجف مقاومة جيش المهدي ولا انسحابه منها وتحوّله إلى حزب سياسي. ينقذ هذه العتبات موقف عراقي موحد سني ـ شيعي وعربي ـ كردي على غرار ما حدث في لبنان في مواجهة المشروع الاسرائيلي.