بصرف النظر عما يمارسه شارون من حماقات عدوانية فجة ضد الفلسطينيين‏,‏ وما يرتكبه بعض الفلسطينيين من حماقات في لعبة الصراع علي السلطة‏...‏ وبصرف النظر عن صحة الدوافع التي حدت بشارون‏,‏ لكي يطرح مشروعا بشأن قطاع غزة‏,‏ رغم أنه سبق له أن انتقد سلفه إيهود باراك‏,‏ لإقدامه علي انسحاب انفرادي اضطراري من جنوب لبنان‏...‏ بصرف النظر عن ذلك كله‏,‏ فإن ثمة إشارات في الأفق الدولي‏,‏ تكشف عن وجود إجماع دولي علي أهمية حل المشكلة الفلسطينية‏,‏ والتوصل الي اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين‏,‏ تري القوي الفاعلة في عالم اليوم صعوبة تحقيقه‏,‏ ما لم يتم تدخل هذه القوي وفرض صيغته علي الطرفين

وهذه القوي الفاعلة التي أتحدث عنها‏,‏ هي أمريكا في المقام الأول‏,‏ والي جوارها أوروبا‏,‏ التي يصعب تجاهلها في صياغة أي حل مرتقب لهذا الصراع‏,‏ الذي لم يعد من الجائز التعامل معه بنوازع نبيلة أو عواطف إنسانية‏,‏ وإنما ينبغي التعامل معه برؤية سياسية واستراتيجية شاملة‏.‏

والواقع أن الحديث عن دور أمريكي منفرد للتعامل مع هذه المشكلة‏,‏ قد يكون مفهوما ومقبولا‏,‏ في إطار ما تملكه أمريكا من القوة والإرادة التي تمكنها من فرض مشيئتها‏,‏لكن التجربة الأمريكية في العراق قد أثبتت لصناع القرار في واشنطن ـ قبل أي أحد آخر ـ أن أمريكا لا تستطيع وحدها أن تغوص في رمال الشرق الأوسط دون سند وغطاء أوروبي كامل‏.‏

لقد أدرك الأمريكيون من تجربة الذهاب الي الحرب ضد العراق‏,‏ رغم معارضة القوي الرئيسية في أوروبا ـ وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا ـ أن معرفة الأوروبيين بالشرق الأوسط وتضاريسه السياسية والاجتماعية‏,‏ تتساوي مع معرفة الأمريكيين بالمكسيك وتركيبتها السياسية والاجتماعية‏,‏ بحكم عوامل شتي تبدأ بالجوار الجغرافي‏,‏ وتتقاطع مع العديد من المقاربات الثقافية والتاريخية والاقتصادية‏.‏

وهذا الذي أتحدث عنه‏,‏ يقول به كثيرون داخل أمريكا‏,‏ وآخرهم الدكتور زيجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر‏,‏ الذي أصدر مؤخرا كتابا بالغ الأهمية تحت عنوان الخيار‏,‏ ليشرح فيه ما الذي يتحتم علي أمريكا أن تفعله للمواءمة بين سطوة الهيمنة التي يفرضها جبروت القوة‏,‏ التي دانت لها وحدها‏,‏ وبين مسئوليات القيادة للنظام العالمي الجديد الذي تضطلع فيه بالدور الأساسي ـ وربما الوحيد ـ منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي‏.‏

ولأن زيجنيو بريجنسكي كان لاعبا أساسيا في فترة حكم الرئيس الأسبق جيمي كارتر‏,‏ التي شهدت إنجاز أول اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل‏,‏ بتوقيع اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية في كامب ديفيد عام‏1979,‏ فإن الرجل يري الآن ـ وفي ظل أوضاع القوة الأمريكية ـ أن السلام بين العرب وإسرائيل ينبغي أن يكون المهمة الأولي لأمريكا في القرن الحادي والعشرين‏,‏ وأن ذلك يتطلب مبادرة عاجلة وجريئة بارتضاء دور أوروبي إلي جوار الدور الأمريكي‏.‏

ورغم تعدد الأسباب التي يستند إليها بريجنسكي من أجل إعطاء سلام الشرق الأوسط أولوية في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية‏,‏ فإنه يركز علي جانب مهم‏,‏ هو أن التوصل لحل صراع الشرق الأوسط لن ينهي معاناة الفلسطينيين فحسب‏,‏ وإنما سوف يؤدي إلي تخفيف وربما تذويب مشاعر السخط والبغض التي تمتليء بها صدور العرب في الشرق الأوسط‏,‏ وهي مشاعر تلقي بظلالها ـ تلقائيا ـ علي جموع المسلمين في العالم تجاه الولايات المتحدة الأمريكية‏.‏

ولكي يشجع بريجنسكي أركان الإدارة الأمريكية علي سرعة الولوج إلي قلب هذا الصراع وإظهار الجدية علي صدق الرغبة في التوصل إلي سلام عادل وقابل للاستمرار‏,‏ فإنه يطرح توصيفا عاما ممثلا في‏4‏ نقاط أساسية هي‏:‏

ان المجتمع الدولي بأسره يري أهمية التوصل إلي اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لإنهاء هذا الصراع‏,‏ الذي أفرز كثيرا من جذور وبذور عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وفي العالم كله‏.‏

ان تجربة ما يزيد علي نصف قرن في هذا الصراع‏,‏ أكدت ـ وبما لا يدع مجالا لأي شك ـ أن المجتمع الدولي لو ترك الفلسطينيين والإسرائيليين عدة قرون أخري‏,‏ ليتعاملا وحدهما مع هذا الصراع‏,‏ فلن يستطيعا تجاوز الشكوك الدفينة المتأصلة في النفوس لدي الجانبين‏,‏ وبالتالي فإنه سوف يكون من المستحيل الرهان علي قدرتهما ـ بمفردهما ـ أن يتجاوزا الخلافات العميقة خصوصا في البنود الحساسة والمعقدة في ثنايا أي حل تفاوضي‏!‏

ان موازين القوي العالمية في الوقت الراهن‏,‏ تجزم بأن أمريكا وأوروبا هما القوتان الوحيدتان القادرتان علي التعامل الحاسم والسريع مع هذا الصراع المزمن‏,‏ حيث بإمكانهما طرح مبادرة تفصيلية مشتركة تشتمل علي إطار يحدد معالم هذا السلام المنشود‏,‏ وأن يستتبعا ذلك بصياغة بنود إجرائية لضمان التنفيذ‏.‏

انه من الطبيعي أن تتعدد الأفكار والصيغ والمشروعات لمعاهدة السلام‏,‏ التي ينبغي ابرامها‏,‏ خصوصا مع تباعد مواقف الجانبين‏,‏ ولكن ـ والكلام لبريجنسكي ـ هناك توافق دولي علي قيام دولتين متجاورتين تتحددان إقليميا بخطوط عام‏1967,‏ ولكن مع إمكان إجراء تعديلات علي الجانبين لاتاحة ضم مستوطنات في ضواحي القدس إلي إسرائيل‏,‏ ثم إقامة عاصمتين داخل القدس ذاتها‏,‏ والنص علي حق اسمي أو رمزي لعودة اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة‏,‏ وربما يكون ذلك في مستوطنات إسرائيلية يتم اخلاؤها مع نزع سلاح الدولة الفلسطينية المرتقبة‏,‏ وتوفير اعتراف شامل وحاسم بإسرائيل من جانب جيرانها العرب‏.‏

ومع أن بريجنسكي يعترف بأن الحلول المطروحة لتسوية القضية الفلسطينية‏,‏ لن تنهي جذور الصراعات المتعددة الوجوه في الشرق الأوسط‏,‏ وأنها يمكن فقط أن تهييء الأجواء الملائمة للتعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين‏,‏ إلا أنه يري أن الصيغة المتوافق عليها دوليا‏,‏ سوف تخفف من حنق من يسميهم إرهابيي الشرق الأوسط ضد أمريكا‏,‏ كما أن هذه الصيغة ستنزع فتيل العنف في المنطقة‏..‏ وأهم من ذلك كله ـ حسب رأي بريجنسكي ـ أن ذلك سوف يفتح الباب أمام جهد أوروبي ـ أمريكي مشترك لمعالجة مشكلات الأمن في الشرق الأوسط‏,‏ دون أن يبدو هذا الجهد وكأنه أقرب ما يكون إلي حملة صليبية مناهضة للإسلام‏.‏

ولست هنا في معرض مناقشة الأفكار التي أوردها بريجنسكي في كتابه‏,‏ والتي تكشف عن أن أولئك الذين ننظر إليهم في عالمنا العربي علي أنهم رموز الاعتدال في أمريكا ـ من عينة بريجنسكي ـ ليس بمقدورهم أن يخلعوا تماما رداء الانحياز لإسرائيل‏,‏ لكنني أركز فقط علي الجانب المهم الذي أشرت إليه منذ بداية المقال‏,‏ حول وجود شواهد وأدلة في الأفق الدولي لفرض حل أو تسوية لإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏.‏

ولست ـ أيضا ـ في حاجة إلي القول إنه طالما أن الدوافع التي تقف وراء هذا التحرك الدولي المحتمل‏,‏ هي في الأساس دوافع تتعلق بالمصلحة الأمريكية العليا‏,‏ فإن من الطبيعي أن يكون الحل المرتقب أقرب إلي تلبية المطامع الإسرائيلية ودون أدني اعتبار للقانون الدولي‏,‏ أو مقررات الشرعية الدولية‏,‏ التي يفترض أن تكون هي المرجعية الحاكمة لأي حل سياسي‏,‏ سواء جاء عن طريق التفاوض أو عن طريق الفرض تحت رايات المجتمع الدولي‏.‏

وإذن ماذا؟
في اعتقادي أن العرب والفلسطينيين‏,‏ بمقدورهم ـ خلال الأشهر المحمومة لانتخابات الرئاسة الأمريكية ـ أن يتحركوا صوب واشنطن‏,‏ التي يزايد فيها أنصار بوش وأنصار كيري علي كيفية إرضاء إسرائيل وكسب رضاء اللوبي الصهيوني‏.‏

ولأن أبواب واشنطن ستظل موصدة إلي أن تنتهي معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية‏,‏ التي لن يعقبها ـ مهما تكن النتائج ـ تغييرات جذرية تجاه الشرق الأوسط‏,‏ فإن السبيل الوحيد يكمن في مدي قدرة العرب علي استثمار الاحتياج الأمريكي لدور أوروبي في الشرق الأوسط‏.‏

أريد أن أقول إن أوروبا ـ وبرغم تحفظات كثيرة علي تراجعات ملموسة في مواقفها تجاه الشرق الأوسط تحت وطأة الضغط الأمريكي والإسرائيلي ـ إلا أنها مازالت أرضا خصبة لإمكانية مخاطبة العقل والضمير وحشد الصوت الأوروبي وراء قوة القانون الدولي ومصداقية الشرعية الدولية‏.‏

واذا كانت أمريكا سوف تغازل أوروبا للحصول علي دعمها في الشرق الأوسط بلغة المصالح‏,‏ فإن الورقة الكبري للمصالح الأوروبية مازالت ورقة عربية‏,‏ لو أمكن للعرب حسن قراءتها وحسن استخدامها‏.‏

ويعزز من صحة ما أدعو إليه أن اشارات غضب كثيرة ظهرت في أوروبا أخيرا‏,‏ تعبيرا عن عمق الاستياء من السياسة الإسرائيلية المتشددة والمتعالية‏,‏ وقد برز ذلك بوضوح في الأزمتين المتتاليتين لتل أبيب مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك‏,‏ ومع المفوض الأوروبي للسياسة الخارجية خافيير سولانا‏.‏

وأسارع إلي القول إنني لا أقول إن هناك تحولا سياسيا في الموقف الأوروبي بالشكل الذي نتمناه‏,‏ ولكنني أجزم بأن الغضب الأوروبي من إسرائيل‏,‏ والقلق الأوروبي من أمريكا وسياستها في الشرق الأوسط‏,‏ يمكن أن يشكلا هامشا واسعا لحرية الحركة وحرية المناورة للعرب في الملعب الأوروبي‏.‏
وهذه هي القضية التي تشغلني منذ السطر الأول في هذا الحديث‏!‏